14 سبتمبر 2025

تسجيل

مراتب الإحسان

30 مايو 2018

الإحسان في كل شيء هو إتقانه وتمامه على أحسن وجه وتهذيبه وتزيينه، والإحسان في العبادة هو الوصول لأجمل مراتبها وأقواها إيمانا. فالإحسان في الإسلام هو الذي سأل عنه جبريلُ رسول الله — صلى الله عليه وسلم — بعد أن سأله عن الإيمان والإسلام، فقال: أخبرني عن الإحسان؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " «أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ». تعبد الله كأنك تراه، فإنك في العمل إذا كان رب العمل ملازما لك دائما فإنك تخلص في العمل وتظهر له أفضل ما عندك وذلك لأنك تراه وتحب أن تظهر له الإتقان والجودة؛ لتحوز تقديره ورضاه. فما بالك برب العالمين أن تعبده كأنك تراه، فتتقن العمل وتتحرى الدقة والجودة وتخشى أن تغضبه أو تسلك سبيلا في غضبه. وإن لم يتحقق لك الشعور بتلك الرؤية، فاعبده لأنه يراك، فربك يراك في كل وقت وحين، ويعلم ما توسوس به نفسك، وما تفعله في السر والعلن، هو معك في كل دقيقة وثانية، نهارا وليلا، فهو الحي الذي لا ينام. فإن علمت بأنه يراك دائما وأبدا، ولا شك في ذلك، وجعلت ذلك الأمر معلقا في ذهنك، فتراعيه في كل عمل تقبل عليه، وتخشى غضبه. فالإحسان هو مراقبة الله في الأفعال والأقوال مما يجعل الإنسان تقياً وصل إلى درجة المتقين وسلك مسالك الصالحين. وقد صنف العلماء للإحسان ثلاث مراتب، أولها كما سبق الحديث، هي مرتبة المراقبة والمشاهدة والخوف من غضب الله تعالى، وهي أن تعمل العمل على وجه الرؤية لله والعلم برؤيته لك، ولتعلم أن جزاء ذلك عظيم عند الله، فقد قال تعالى فيهم: "لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ". وعن صهيب عن النبيِّ — صلى الله عليه وسلم — قال: « إِذَا دَخَلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ، قَالَ: يَقُولُ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: تُرِيدُونَ شَيْئًا أَزِيدُكُمْ؟ فَيَقُولُونَ: أَلَمْ تُبَيِّضْ وُجُوهَنَا؟ أَلَمْ تُدْخِلْنَا الْجَنَّةَ، وَتُنَجِّنَا مِنَ النَّارِ؟ قَالَ: فَيَكْشِفُ الْحِجَابَ، فَمَا أُعْطُوا شَيْئًا أَحَبَّ إِلَيْهِمْ مِنَ النَّظَرِ إِلَى رَبِّهِمْ عَزَّ وَجَلَّ» ثم قرأ النبي — صلى الله عليه وسلم — هذه الآية: "لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ". والمرتبة الثانية: هي مرتبة الحياء من الله، أي الخجل من الله ومعصيته، وهذه أعلى درجة من الدرجة السابقة، فلا يعلم برؤية الله فقط، بل يستحي منه في حال معصيته، ولا يكون كالذين عصوا الله وتباهوا بمعصيتهم أو جَهَروا بها، أو كمن خشي الخلق ولم يخش الخالق تبارك وتعالى، فكان يذنب في السر ويخشى من أحد يعلم بذنبه ومعصيته، فجعل الله أهون الناظرين إليه، وعن ذلك قال ربنا: "يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا".. وقوله — صلى الله عليه وسلم —: «أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، وَأَنَا مَعَهُ إِذَا ذَكَرَنِي، فَإِنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي، وَإِنْ ذَكَرَنِي فِي مَلَإٍ ذَكَرْتُهُ فِي مَلَإٍ خَيْرٍ مِنْهُمْ، وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ بِشِبْرٍ تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعًا، وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ بَاعًا، وَإِنْ أَتَانِي يَمْشِي أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً». أما عن المرتبة الثالثة: فهي مرتبة الأنس بالله تعالى، وهي أعلى مراتب الإحسان، فإذا عبد الإنسانُ ربه ووصل لدرجة الإنس به سبحانه وتعالى فقد فاز فوزًا كبيرًا وعَظُم أجره في الدنيا والأخرة. فهذا شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله لما سجنه أعداؤه، وأغلقوا عليه الأبواب، كان يكثر من قوله تعالى: "فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ" الحديد: 13 وكان يقول: ما يصنع أعدائي بي؟ أنا جنتي وبستاني في صدري، أينما ذهبت فهي معي.. أنا قتلي شهادة، وسجني خلوة، ونفيي سياحة، وكان عليه رحمة الله يقول: إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة. وهذا رسول الله الذي بلغ أعلى مراتب الإحسان في العبادة والأنس به سبحانه تعالى والاطمئنان والسرور والفرح بعبادته. قالت عائشة رضي الله عنها: كَانَ النبيُّ — صلى الله عليه وسلم — يَقومُ مِنَ اللَّيلِ حَتَّى تَتَفَطَّرَ قَدَمَاهُ، فقُلْتُ له: لِمَ تَصنَعُ هَذَا يا رَسولَ اللهِ وَقَدْ غُفِرَ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ؟ فَقَالَ: "أَفَلَا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا". هذه مراتب الإحسان فلتتدرجوا في مراتبها لتصلوا إلى أعلى مرتبة وتفوزوا بالأنس والاطمئنان بالله تعالى، فاعبدوا الله واطمئنوا به وافرحوا بعبادتكم له، كما قال جل وعلا: "أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ"، نعم فذكر الله هو سكينة القلوب.