24 أكتوبر 2025
تسجيلقد لا يحظى شيء باهتمام الناس وشغفهم مثلما يحظى السفر وإن اختلفت أهداف الناس منه باختلاف مشاربهم وطبائعهم.فالسفر كان وما يزال وسيلة البعض من الناس للإحساس بالحرية والانطلاق والمتعة وكسر قيود الحياة اليومية التي تكبّلهم بأعبائها، وتشدّهم بمشاغلها.ونفس الإحساس بالسعادة والمغامرة وتغيير المألوف هو ما يدفع العربي منذ القدم ممتطياً بعيره لاقتحام مجاهل الصحراء متحدياً العواصف الرملية وأشعة الشمس المحرقة وقلة الزاد والماء، ولا أنيس له إلا مناجاته لجمله أو لرفيق سفره أو إطلاق ما يعتمل في مكنونات نفسه شعراً يعبّر فيه عن لوعته من فراق الأهل والأحبه حتى قيل ثلثا الشعر العربي القديم على ظهور الإبل كما تقول المصادر الشعرية.وإذا كانت البداوة تعني في جوهرها التنقل والترحال بحثاً عن موطن مؤقت أكثر كلأً وماءً أو هرباً من بطش قبيلة قوية تقطن في الجوار، فإن التجارة كانت مصدر الدخل الرئيس للبدو وغيرهم من قدماء العرب، الذين دفعتهم حاجتهم هذه لطلب الرزق منذ قديم الزمان للتوغل بعيداً نحو المدن والقرى المترامية على حدود الصحراء أو باتجاه المناطق البعيدة عنهم نحو مراكز التمدن والحضارة في بلاد الشام ووادي الرافدين واليمن حاملين معهم ما ينتجونه أو ما تجود به بيئتهم الشحيحة، وفي المقابل يحضرون معهم من المدن ما يحتاجون له من مواد غذائية ومصنوعات يدوية.فالتجارة التي مارسها البدو والحضر من عرب شبه الجزيرة العربية والتي كانت لبعض القبائل العربية مثل قريش صولات وجولات فيها حتى عدّت مصدر ثرائهم وسر تميزهم بين قبائل العرب ووسيلة رزقهم الرئيسة، والتي شكَّلت نشاطاً موسمياً سنوياً، حيث يرتحلون صيفاً الى بلاد الشام وشتاءً نحو اليمن والبلاد الواقعة على المحيط الهندي، وقد ذكر القرآن الكريم هذه الرحلات المهمة في سورة قريش.وتنطلق القوافل عادةً في بداية الخريف لتنهي رحلتها قبل الشتاء تجنباً لبرد الشتاء القارس وحر الصيف الحارق. حيث يستعد الرجال المرتحلون في القوافل للرحلة استعداداً جيداً قبل الرحلة بفترة معينة، ويتولى رئيس أو مشرف القافلة مسؤولية الإشراف على كافة الاستعدادات وتأمين متطلبات وسلامة الرجال المنضمين للقافلة وحماية ما تحمله من بضائع من قطاع الطرق المنتشرين على طرق القوافل وذلك بحمل البواريد والسيوف، حيث غالباً ما يكون الرجال المرتحلون من القافلة من ذوي النشاط والهمة والمعرفة بفنون الحرب والقتال للدفاع عن أنفسهم وعن أمتعتهم. فتسير القافلة نحو بغيتها مدفوعةً بعزيمة رجالها وبصبرهم وتحملهم المشاق والأهوال، وحبهم للسفر والمغامرة وكرههم لحياة السكينة والخمول، وحفزت هذه الرحلات والأسفار البعض من الموهوبين لتدوين رحلاته ومغامراته ليخرج من خلالهم جنس جديد من الأدب هو أدب الرحلات الذي تذكر المصادر الأدبية أن العرب هم أول من ابتكروه وتركوا به تراثاً ثرياً ومنه استمد أدباء الرحلات في العصر الحديث أفكارهم وقصصهم. فإذا كان الفينيقيون والإغريق في الماضي هم سادة البحر، فإن العرب هم سادة الرحلات البرية من غير منازع.