29 أكتوبر 2025
تسجيلتبدأ الأسبوع المقبل في العاصمة العمانية مسقط، الدورة الثالثة عشرة لندوة تطور العلوم الفقهية تحت عنوان (المشترك الإنساني والمصالح)، وبحضور عدد من كبار العلماء والباحثين المتخصصين في قضايا الفكر الإسلامي والقضايا الفكرية والحقوقية الإسلامية والدولية، وغيرهم من الباحثين المهتمين في موضوعات الندوة، وستقدم في هذه الندوة الموسعة 68 بحثا في مجالات الشورى، والمساواة، والعدل وفقه حقوق الإنسان في الفقه الإسلامي، والمواثيق الدولية، إلى جانب فقه المشترك الإنساني، والقواسم المشتركة التي تجمع بين الإسلام والأديان، لاسيما الأديان السماوية، وقد أوضح الدكتور سالم بن هلال الخروصي مستشار وزارة الأوقاف والشؤون الدينية، أن مصطلح (المشترك الإنساني) هذه الندوة بأنها القضايا التي "تشتركُ فيها المُجتمعات البشريَّة؛ أيًّا كان موطنها أو عقيدتها أو سياستها، وهذه الأمور تتمثل في: المُساواة، الشورى، والعدل وحقوق الإنسان؛ وهي أمور تحتاجها الإنسانيَّة كلها؛ إذ لا يوجد مُجتمع مدني إلا وتغدو هذه الدعائم ركناً أصيلاً في نظامه؛ لذلك تستعرض هذه الندوة هذه القواسم الأربع؛ من خلال الشريعة الإسلاميَّة والقوانين الدوليَّة، ومُنظمات حقوق الإنسان ـ مضيفا: إنَّ من الأسباب التي دعتْ وزارة الأوقاف والشؤون الدينيَّة إلى طرق هذا الموضوع في ندوتها "تطوُّر العلوم الفقهيَّة" هذا العام؛ ما يُبديه الناس اليوم من تساؤل حول حظ الشعوب من تلك المبادئ، والاختلاف في تفسير تطبيقاتها في واقع المجتمع. والنظرة السطحيَّة لتلك المبادئ، وعدم الإلمام بضوابطها، والتباين في تطبيقاتها بين مُجتمعاتنا الإسلاميَّة والمُجتمعات الغربيَّة، وفهمها لدى مُنظمات حقوق الإنسان، والتعريف بأسبقيَّة هذا الدين الحنيف في إيجاد النظام الدقيق لها وتطبيقاتها في واقع المجتمع المُسلم عبر تاريخه الحافل. والواقع أن طرح موضوع المشترك الإنساني، يعد موضوع الساعة من حيث مضامين هذه الندوة الموسعة، في ظل الأزمات والصراعات الفكرية والإقصاء والنبذ في عصرنا الراهن، ونقص فهم الرؤية الإسلامية الفكرية والفقهية، عند بعض المنتمين للإسلام للأسف، وقلة بضاعتهم خاصة بعض الشباب الذي يتصدر أحيانا للفتوى، تجاه فهم الأنا والآخر، والرؤى الجدية تجاه المشترك الإنساني تجاه الكثير من القضايا، حتى مع أصحاب الدين الواحد نجد الإقصاء وحتى التكفير!، وتحويل البعض آراء بعض الاجتهادات الفقهية، وكأنها الدين نفسه، مع أن الآراء المذهبية، مدارس للفقه، ليس دينا ضمن النصوص القطعية التي لا يجوز الانتقاء والفرز منها، مع أن علماء العصور السابقة كانوا أكثر تسامحا وتقبلا للاختلاف والتعدد والتنوع في القضايا الاجتهادية، ولعل مقولة الإمام مالك / إمام دار الهجرة، (كل يأخذ منه ويترك، إلا صاحب هذا المقام)، أشار إلى قبره صلى الله عليه وسلم. والإسلام أسس مبادئ العدل والمساواة في الشرع الإسلامي الحنيف، وجعلها مبادئ عامة وعالمية تتجاوز الألوف والألسن والأعراق، ولا تتوقف عند دين الإسلام فقط، بل تتعداه إلى الأديان السماوية وغيرها من الأديان الوضعية، وقد أكدت على ذلك النصوص القرآنية والأحاديث النبوية، قال تعالى: (يا أيها الناس إنّا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إنّ الله عليم خبير) [ الحجرات: 13 ]. وقال سبحانه وتعالى في العدل والبر: (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبرّوهم وتقسطوا إليهم إنّ الله يحب المقسطين) [ الممتحنة: 8 ]. فغير المسلمين من المواطنين لهم ما للمسلمين في الحقوق والواجبات والعدل والمساواة وفق القاعدة النبوية الشهيرة (لهم ما لنا وعليهم ما علينا).فنصوص الإسلام حول المساواة والعدل بين البشر مسألة ثابتة شرعاً، وحين دخل الإسلام البلدان التي بعض سكانها لا يدينون به نظّم العلاقة بين المسلمين وغير المسلمين بمقتضى عقد يعرف في الفقه والتاريخ باسم عقد "الذمة". والذمة هي العهد والأمان والضمان. هذا هو معناها اللغوي. والذمة في الفقه هي "عقد مؤبد يتضمن إقرار غير المسلمين على دينهم وتمتعهم بأمان الجماعة الإسلامية وضمانها بشرط بذلهم الجزية وقبول أحكام دار الإسلام في غير شؤونهم الدينية". أما في تلك الشؤون فإن المسلمين مأمورون بتركهم وما يدينون. وقد مضى الزمن بهذا العقد وتطبيقه، والناس ـ مسلمين وغير مسلمين ـ يعيشون في سماحة وتفاهم ومودة شهد بها القاصي والداني، إلى أن دخل الاستعمار العسكري الغربي جل بلاد الإسلام، بل دخل كل بلاده التي تضم المسلمين وغير المسلمين، فانتهى بذلك وجود الدولة الإسلامية التي أبرمت عقد الذمة، ونشأت دولة جديدة، بعد مقاومة استمرت عقوداً من السنين، للمستعمر الأجنبي، شارك فيها المسلمون وغير المسلمين على سواء. وهذه الضريبة [ الجزية ] لم ترد إلا مرة واحدة في القرآن الكريم في قوله تعالى: (قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون). والمقصود بها الضريبة التي يؤدونها في مقابل حماية الدولة لأموالهم وأنفسهم وأعراضهم ودينهم من دون أن يتكلفوا حرباً أو يدفعوا لها زكاة، الأمر الذي يجعل لهم امتيازا ضرائبياً وحقاً خاصاً على بقية المواطنين من المسلمين، لا انتقاصا منهم ومن إنسانيتهم، أما مسألة الصغار فإنها تعبير عن الخضوع للسلطة العامة بعد التمرد عليها، إنه كناية عن الاستسلام للقوة تماماً كما هم المسلمون الذين تمردوا على الدولة، فيُفرض عليهم الخضوع لها في تنفيذ القانون ودفع الزكاة وأمثال ذلك. وقد أقر الإسلام لغير المسلمين في الدولة الإسلامية الحرية الدينية وغيرها من الحقوق التي تجعلهم يتساوون مع المواطنين المسلمين فيما عدا الجانب الذي يتصل بالعقيدة.وتستمد الحرية الدينية لغير المسلمين من آيات القرآن الكريم: (لا إكراه في الدين) [ البقرة: 256] والقاعدة الشرعية التي تقول [ لهم ما لنا وعليهم ما علينا ] تكفل لهم الحرية الدينية على قدم المساواة وفق شريعتهم، ولهم حق ممارسة شعائر دينهم، فلا تهدم لهم كنيسة ولا يكسر لهم صليب، كما يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اتركوهم وما يدينون). كما أباح لهم الإسلام ما أباحه لهم دينهم من الطعام والشراب وغيره من أنواع الأطعمة التي يتناولونها بموجب شرائعهم، كما حمى الإسلام كرامتهم وصان حقوقهم، وجعل لهم الحرية في الجدل والنقاش مع غيرهم من المسلمين في حدود العقل والمنطق والأدب والحوار دون مصادرة أو إقصاء، قال تعالى: (ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن، إلا الذين ظلموا منهم، وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم، وإلهنا وإلهكم واحد، ونحن له مسلمون) [آية العنكبوت، وقال تعالى: (قل يأهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم أن لا نعبد ألا الله، ولا نشرك به شيئا، ولا يتخذ بعضنا بعضاً أربابا من دون الله) [ آل عمران: 64].. خطوة جيدة أن تقام مثل هذه الندوات المهمة بما تطرحه من بحوث وأوراق في هذه الملتقيات، لعلها تسهم في مراجعة الكثير من الأفكار الإسلامية الأصيلة، الجديرة بالاهتمام والمراجعة للكثير من المقولات والأفهام الخاطئة في واقعنا العربي الإسلامي.