15 سبتمبر 2025
تسجيللا حديث ولا صور على شاشات العالم سوى الذي يرد على الرأي العام الدولي من القاهرة ودمشق وبغداد وتونس وبنغازي وصحراء الجزائر بمشاهده الفاجعة وتداعياته المأساوية والمخاوف منه ومؤامرات القوى عليه وتأجيج الصراعات فيه. مشاهد مصرية من السويس وبورسعيد سقط فيها إلى حد كتابة المقال 32 من الضحايا على خلفية أحكام قضائية بالإعدام في قضية المباراة الدموية الشهيرة مع النادي الأهلي التي خلفت 74 قتيلا وعلى مسرح معركة لي الذراع بين الإسلاميين والليبراليين. وتجتاح حياتنا اليومية مشاهد إضافية من دمشق أصبحت مثل طاحونة القتل المعتادة لم تعد تعرف فيها من القاتل ومن المقتول وسط ركام المدن المدمرة وقوافل الهاربين من الجحيم. وجاءتنا أيضا وبالتوازي صور العراق الثائر الجديد وهي تحمل هتافات وشعارات سمعناها من قبل في بلدان الربيع يتصدى لها المالكي بما استطاع من ردع بلغ حد إطلاق النار على المتظاهرين في الفلوجة ذات التاريخ القريب الفاجع. ثم جاءت مشاهد من تونس تضخمها القناة الفضائية الفرنسية الثانية بتقديم الاستثناء على أنه "القاعدة" وتفزيع السياح الأوروبيين من بلاد عرفت بكونها وطن الياسمين والتسامح وطيب العيش والحوار فإذا بالتوانسة يفيقون على مقامات الأولياء الأثرية محروقة أو مهددة بالحرق بينما من ضمن هؤلاء الأولياء مجاهدون ومرابطون (مثل أبي سعيد وسيدي عمار وسيدي سالم وهم الذين تصدوا في تونس للحملة الصليبية الثامنة التي قادها ملك فرنسا لويس التاسع نهاية القرن الثالث عشر ميلادي) وحتى صحابة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) مثل مقام أبي زمعة البلوي بالقيروان. وأخيرا هطلت علينا مشاهد من ليبيا بتلك "البيكوبات" الحاملة للمدافع الرشاشة والصواريخ الموجهة للطيران والأر بي جي وهي تجوب شوارع بنغازي وطرابلس وتهدد الأمن وترفض جماعات البيكوبات تسليم سلاحها للدولة لأنها تنكر على السلطة الجديدة حق الشرعية في حين تسند لنفسها حق التكلم باسم الثورة وباسم الشعب الليبي بل وتسعى لتعويض أو تقويض الدولة. وأخيرا ملأت شاشاتنا صور احتجاز الرهائن الأبرياء في عين أميناس بالصحراء الجزائرية كتوابع سريعة لزوابع مالي التي حلت بها قوات فرنسية فإذا بنا نكتشف بأن ثلث المهاجمين هم تونسيون جيران الجزائر وبأن من بين الضحايا الرهائن تونسيون أيضا فندرك بيسر أن العنف لم تعد له حدود ولا يحمل جوازات سفر ولا يعترف بتأشيرات دخول ولا يقف عند معابر الجمارك للتفتيش والتحري. هذه بعض صور المشهد العربي اليوم وهي لا تبعث على الاطمئنان ولا توحي بنهاية النفق المظلم (حسب تعبير وزير الاقتصاد التونسي المستقيل حسين الديماسي) بل تدعونا للتدبر والتساؤل ومساءلة النفس عما حدث للعرب وهم أمام أخطر امتحان عسير يقفون حائرين ينتظرون المزيد من التدخلات الأجنبية وتنفيذ مخططات التقسيم والتفتيت وضياع ما حققه آباؤهم وأجدادهم من مكاسب الحريات واستقلال الشعوب وتوحيد الأمة وصيانة الهوية. كل تلك الكنوز الغالية التي دفع من أجلها الأسبقون الأرواح وضحوا بالأنفس وبالنفيس أصبحت في مهب الريح. إن جيل اليوم مهدد بفقدان الأمن والأمان وبخراب الأوطان حين نقرأ الأحداث العربية بعيون الصدق مع النفس فنرى أن المصريين أكثر انقساما من الأمس وأن السوريين أشد ويلا من الزمن الذي ثاروا عليه وأن العراقيين على كف عفريت الطائفية بينما لم يكن العراقي في عهد الملك الهاشمي فيصل قبل 1958 يسأل عن جاره العراقي هل هو شيعي أم سني وهل هو مسلم أم مسيحي وأن التونسي الذي عاش 15 قرنا في وفاق مع هويته العربية الإسلامية انتقل إلى فضاء مخيف وعنيف من محاكم التفتيش الفكرية والعقدية على هامش التاريخ وبتناقض صارخ مع العقل وبعيدا عن مشاغل المواطن العادي المستقيل من السياسة والجاري وراء لقمة العيش واستعادة الكرامة والحرية والشغل والعدالة الاجتماعية.و أن الجزائري الذي قدم منذ 1840 بثورة الأمير عبد القادر أكبر ملاحم المقاومة أصبح اليوم مهددا في صحرائه وفي أمنه بوافدين عرب وأفارقة منتمين إلى ملل ونحل مستحدثة. لو كان من بين القراء الأفاضل من يعارض هذا التوصيف الموضوعي للمشهد العربي في مقالي هذا فليدلني على بارقة تفاؤل تبدد ظلام تشاؤمي وأنا لا أنكر أن الحرية مكسب ثمين حققته انتفاضات الشعوب لكنه مكسب مهدد بالمخاطر الكبرى حين يتحول إلى فوضى عارمة تبدأ بتجاوز الإشارات الحمراء في الطريق وتنتهي بإهانة كل رموز السلطة بالمسخرات الإعلامية المضحكة الهابطة وصولا إلى حالة عربية عامة من العبث بكل مكاسب الحضارة وحالة عربية عامة من انعدام الأخلاق السياسية والإخلال بالقيم المواطنية والمدنية تحت حجج الحرية فكل حرية بلا ضوابط هي الفوضى واسمها الحقيقي هو العدمية أي سلوك الروافض الجدد المؤدي إلى تدمير الدولة وتقويض القانون وتعريض بلداننا للغزو الأجنبي حين يلجأ الناس رغما عنهم لخيار الدولة المولى عليها ولكنها أمنة يفضلونها لا قدر الله على دولة حرة لكنها لا توفر لا الخبز ولا الكرامة ولا الأمان. إنني أناشد الشعوب العربية ونخبها مهما كان انتماؤها حاكمة كانت أو معارضة أن تعي خطورة هذه اللحظة وأن تدرك أنها أمام امتحان التاريخ وأن مصائر الملايين من الناس الطيبين الأصلاء بين أيديهم وأنه في هذا الامتحان يكرم المرء أو يهان.