18 سبتمبر 2025

تسجيل

الفلامنكو.. طفولة غامضة لفن جميل

29 نوفمبر 2013

سكرنا من أغانيكم وذبنا في مآسيكم «فلا منكم» حُرمنا.. هذا ما نطق به أحد أمراء الأندلس، بعد ليلة جميلة، تناسق فيها إيقاع الأقدام وهي تدق الأرض بقوة وحيوية، متجاوبة مع كلمات الأغاني الجماعية التي ينشدها المغنون.. وبالطبع فإن هذه الحكاية ليست موثقة، لكنها تتردد بين حين وآخر، عندما يحاول أحدهم أن يفسر معنى «فلامنكو» من خلال التأكيد على أن أصل الكلمة عربي، حيث قال الأمير الأندلسي، أو قيل على لسانه «فلا منكم حُرمنا»! حتى الآن لم يتوصل أحد من الباحثين في تاريخ الموسيقى والغناء إلى تفسير منطقي أقرب إلى اليقين فيما يتعلق بأصل كلمة فلامنكو، ولم يستطع أحد أن يهتدي إلى بدايات هذا الفن الجميل وكيفية نشأته، وكأنه قدر له أن يظل غامضاً في طفولته، أو كأنه نبات فجائي، يواجهنا على غير توقع بأغصانه وأوراقه وزهوره المتنوعة. لكن المعروف أن إسبانيا وحدها هي التي تحتضن هذا الفن الجميل، دون سواها من الدول الأوروبية المحيطة بها، فضلاً عن سائر دول العالم، فحين نقول: فلامنكو تتبادر إلى أذهاننا إسبانيا والعكس صحيح كذلك، ونضيف إلى الفلامنكو بالطبع رياضة مصارعة الثيران التي يرى كثيرون من غير الأسبان أنها رياضة متوحشة، لا تراعي أبسط قواعد حقوق الحيوان!. وعلى أي حال، إذا كان هناك من يقولون إن أصل كلمة فلامنكو أصل عربي، ودليلهم «فلا منكم حُرمنا» وسواها من الأقوال الأخرى، فإن هناك آخرين يرون أن أصل الكلمة يرجع إلى ارتباطها بالشعب الفلمنكي، ولم يكن الأسبان يحبون هذا الشعب لأسباب تاريخية قديمة. وممن يقولون إن هناك مؤثرات عربية في الفلامنكو الباحث البريطاني نييل أردلي في كتابه الجميل «الموسيقى.. موسوعة شاملة» حيث يرى أن المؤثرات الآسيوية والشرقية تبدو واضحة في الموسيقى الإسبانية وفي موسيقى أوروبا الشرقية، وأن هذه المؤثرات جاء بها العرب والأتراك منذ قرون بعيدة، أما «المعجم الموسوعي للمصطلحات الثقافية» وهو أحد الكتب المهمة للدكتور ثروت عكاشة فإنه يعرف الفلامنكو قائلاً: «أغنية الفلامنكو هي أغنية إسبانية أندلسية مصحوبة برقصة «نورية» على أنغام الجيتار، وتختلف باختلاف المدن التي تؤديها، ومن ناحيتي فإنني حاولت التعرف على أوجه الاختلاف في رقصات الفلامنكو، لكنني أتذكر هنا أنني وقفت - ذات مرة - مبهوراً أمام راقصة طويلة ممشوقة وجميلة، تؤدي رقصة تغمر الروح بالعنفوان، وقد أطلقت عليها المرأة – الرمح، والحقيقة أن هذه المرأة – الرمح هي التي ألهمتني قصيدة بعنوان فلامنكو إسبانيا الأندلسية، قلت فيها: الفلامنكو صبايا مستحمات بموسيقى كساها الكبرياء - في زمان عربي أبله النظرة يعدو صاغراً دون رداء - الفلامنكو عزاء - عندما أحضن يأسي.. في زمان عربي صادروا منه الرجاء! عندما نتعرف على الذين يؤدون رقصات الفلامنكو ويغنون أغانيه، نستطيع أن نتعرف على سر هذا الكبرياء الذي يغمر الرقص والغناء، فقد كان هؤلاء جميعاً ممن نسميهم الغجر أو النور ويسميهم الغربيون «Gipsy» وهؤلاء كلهم من القبائل التي تنتقل من قارة إلى قارة ومن دولة إلى أخرى، لكنهم لا يعيشون في المدن، وإنما يعيشون على أطرافها، وكأنهم من المنبوذين اجتماعياً، وإلى الآن فإن مجموعات من الغجر أو النور تعيش في مصر وسوريا وتركيا والمجر ورومانيا، وبالطبع في إسبانيا، من هذا المنطلق أستطيع القول إن الغجر أو النور يحاولون بأغانيهم ورقصاتهم التي تمتد طول الليل إثبات وجودهم في الحياة بما تموج به أرواحهم ونفوسهم من كبرياء وعنفوان، وما تختزنه أعماقهم من تمرد حاد على المجتمعات التي يعيشون فيها، نتيجة لإحساسهم بالتمييز العرقي أو العنصري ضدهم. أياً كان معنى كلمة فلامنكو فإنه فن يستحق التقدير، لأنه يزيح اليأس عن النفس، بل يغمرها بالعنفوان والكبرياء.