17 سبتمبر 2025
تسجيلمحمود حسن إسماعيل من الشعراء الكبار الذين أعتز بأني عرفتهم عن قرب، بعد أن تذوقت إبداعاتهم الشعرية الرائعة، وفي أخريات سنوات عمله الوظيفي كان مستشارا ثقافيا لإذاعة جمهورية مصر العربية، وكنت وقتها – سنة 1965- قد تخرجت في قسم اللغة العربية بآداب القاهرة، وكان يطيب لي أن أقوم بزيارته في مكتبه قبل انصرافه منه بقليل، حيث أتحدث معه عن الشعر والشعراء، وعن قصائده التي يغنيها المطربون الكبار، ومنهم أم كلثوم ومحمد عبدالوهاب وسواهما، ثم أصطحبه لنركب الأتوبيس النهري معا من ماسبيرو على كورنيش النيل حتى شاطئ الجيزة، وذات مرة سألته عما إذا كان من حق المطربين أن يغيروا أو يعدلوا كلمات القصائد التي يغنونها، فقال- وهو يضحك- إن المطربين أنواع، فمنهم من يغنون كالببغاوات وهم كثيرون، ومنهم مطربون مثقفون ومتذوقون للشعر بصورة تدعو إلى التقدير والإعجاب، وهؤلاء قليلون وهم وحدهم لهم الحق في أن يعدلوا بعض كلمات القصائد التي يريدون غناءها، بشرط أن يتفقوا مع مبدعي تلك القصائد، وفي مقدمة هؤلاء المطربون محمد عبدالوهاب الذي كان أمير الشعراء أحمد شوقي يرعاه في بدايات رحلته الفنية المثمرة والطويلة. توقف هذا الشاعر العبقري لحظات، ليتأمل النيل من نافذة الأتوبيس النهري، ثم سألني فجأة: هل تتذكر قصيدتي النهر الخالد؟ قلت له على الفور أنا لا أتذكرها فحسب، وإنما أحفظها عن ظهر قلب، وهي من روائع ديوانك الرابع أين المفر الذي صدر سنة 1947 وهنا تجلت في نظرات عينيه فرحة طفولية، ثم قال: سأفشي لك سرا لم أبح به لأحد من قبل، لقد طلب مني عبدالوهاب أن أزوره في بيته قبل أن يلحن هذه القصيدة، وأخذ يقرأها أمامي: مسافر زاده الخيالُ – والسحرُ والعطرُ والظلالُ- ظمآن والكأس في يديه- والحبّ والفنّ والجمالُ- شابتْ على أرضه الليالي – وضيعتْ عمرَها الجبالُ- ولم يزلْ ينشد الديارا- ويسأل الليلَ والنهارا – والناس من حوله سكارى.. لم يكمل عبدالوهاب قراءته لبقية الأبيات، ولكنه أعاد قراءة الشطر الأخير الذي توقف عنده – والناس مِنْ حوله سكارى، ثم قال لي بكل رقة وأدب: يا محمود بك.. إنك لا تقصد بالطبع أن تقول إن الناس يتمشون على ضفاف النيل وهم سكارى، لكنك تقصد أن الناس من فرط نشوتهم بمنظر النيل يبدون كأنهم سكارى، وفي هذه الحالة فإني أستأذنك في أن أغني هذا الشطر على الوجه الآتي: والناس في حبه سكارى. هذا هو السر الذي أفشاه لي محمود حسن إسماعيل، ولهذا فإن من يقرأ القصيدة في ديوانه سيقرأ: والناس من حوله سكارى، أما من يسمعها بصوت عبدالوهاب فإنه سيسمع: والناس في حبه سكارى، ولو كان هذا الشاعر العبقري مغرورا ما كان يمكن أن يفشي هذا السر لي خصوصا وأني كنت وقتها شابا صغيرا، ولو أن عبدالوهاب لم يكن قد أحس بما يريد الشاعر أن يقوله على أحسن وجه ما كان قد أقدم على ما قام به من تغيير بعد استئذان صاحب القصيدة! من حقي الآن أن أسأل: هل لدينا الآن مطربون مثقفون ومتذوقون للشعر، وهل لدينا في هذا الزمان شعراء كبار مبدعون، وهل النيل الذي كان جليلا وجميلا وملهما للشعراء والفنانين ما زال على ما كان عليه من جلال وجمال، أم أن قبح النفوس وتراكم القمامة قرب ضفافه قد أفقداه ما كانت له من مكانة أعلى من مكانة سواه من أنهار الدنيا؟. أترك لكم أن تجيبوا كما تريدون وكما تحبون، مكتفيا بأن أتحسر وأنا أتذكر ما كان من جلال ومن جمال تكحلت عيناي بهما ذات زمان!