15 سبتمبر 2025
تسجيلكانت وما تزال نساء العرب يتمتعن بالفصاحة ورجاحة العقل لذا كان لهن دور واضح وملموس سواء قبل الإسلام أو بعده في النهضة التي شهدتها الحضارة العربية. ولعلنا لا ننسى الخنساء، وزرقاء اليمامة وخديجة بنت خويلد رضي الله عنها زوجة رسولنا الكريم محمد صلى الله عليه وسلم، وعائشة رضي الله عنها بنت ابوبكر الصديق وزوجة الرسول عليه السلام، وقطر الندى وزنوبيا وغيرهن وغيرهن مما لا يتسع المجال لذكرهن، فكلٌ في مجالها وكل في فضلها. ومن القصص التي تروى عن سيدة ذكية وفية من العرب القدماء من غير المشهورات، والتي قرأتها مؤخرا فتأثرت لدرجة انني أجهشت بالبكاء تأثرا بها وأحببت أن أشارككم بها لعلها تمس بعض القلوب القاسية مثلما فعل الرجل العربي في هذه القصة مع أمه. والقصة تقول إنه كان هناك عرب يسكنون الصحراء طلباً للمرعى لمواشيهم، ومن عادة العرب التنقل من مكان إلى مكان حسبما يوجد العشب والكلأ والماء، وكان من بين هؤلاء العرب رجل له أم كبيرة في السن وهو وحيدها، وهذه الأم تفقد ذاكرتها في أغلب الأوقات نظرا لكبر سنها، فكانت تهذي بولدها فلا تريده ان يفارقها، وكان تخريفها يضايق ولدها منها ومن تصرفها معه، ويظن انه سيقلل من قدره عند قومه.. هكذا كان نظره القاصر. وفي أحد الأيام أراد قومه أن يرحلوا لمكان آخر بحثا عن الماء والعشب، فقال لزوجته: إذا ذهبنا غداً، اتركي أمي بمكانها واتركي عندها زادا وماء حتى يأتي من يأخذها ويخلصنا منها أو تموت!! فقالت زوجته: أبشر سوف أنفذ أوامرك، وفي اليوم التالي شد العرب باكراً ومن بينهم هذا الرجل، تركت الزوجة أم زوجها بمكانها كما أراد زوجها، لكنها فعلت أمرا آخر عجباً، لقد تركت ولدهما معها مع الزاد والماء، وكان لهما طفل في السنة الأولى من عمره وهو بكرهما وكان والده يحبه حبا جماً، فإذا استراح طلبه من زوجته ليلاعبه ويداعبه، سار العرب وفي منتصف النهار نزلوا يرتاحون وترتاح مواشيهم للأكل والرعي، حيث إنهم من طلوع الشمس يسيرون، فجلس كل مع أسرته ومواشيه، وطلب هذا الرجل ابنه كالعادة ليتسلى معه. فقالت زوجته: تركته مع أمك، لانريده. قال: ماذا؟!! وهو يصيح بها.. فقالت: لأنه سوف يرميك بالصحراء كما رميت أمك. فنزلت هذه الكلمة عليه كالصاعقة، فلم يرد على زوجته بكلمة واحدة لأنه رأى أنه أخطأ فيما فعل مع أمه. أسرج الرجل فرسه وعاد لمكانهم مسرعا عساه أن يدرك ولده وأمه قبل أن تفترسهما السباع، لأنه من عادة السباع والوحوش الكاسرة إذا شدت العربان عن منازلها تخلفهم في أمكنتهم فتجد بقايا أطعمة وجيف مواش نافقة فتأكلها، وصل الرجل الى المكان وإذا بأمه وهي ضامة ولده الى صدرها مخرجة رأسه فقط للتنفس، وحولها الذئاب تدور تريد الولد لتأكله، والأم ترميها بالحجارة، وتقول لها: ابتعدي هذا ولد فلان. وعندما رأى الرجل ما يجري لأمه مع الذئاب قتل عددا منها وهرب الباقي، فحمل أمه وولده بعدما قبل رأس أمه عدة قبلات وهو يبكي ندما على فعلته، وعاد بها الى قومه، فصار من بعدها بارا بأمه لا تفارق عينه عينها، وصار إذا شدت العرب لمكان آخر يكون أول ما يحمل على الجمل أمه ويسير خلفها على فرسه، كما زاد غلاء زوجته عنده لفعلتها الذَّكيَّة. وأخيرا.. لاشك أن هذه الزوجة الذكية الوفية قد علمته درسًا لن ينساه أبدًا. وأقول إنه يجب على كل من يقرأ هذه القصة أو تروى له من أحد قرأها من قبل أوذكرتكم أنا بها، أن يعود الى أمه حيث تركها في بيت عجزة، أو ملحق مع خادمة، أو عند أحد من أقربائه يرعون له أمه مقابل حفنة من المال، أن يسارع ويعود الى أمه لأن الجنة تحت قدميها، وأن ما يفعله بأمه الآن سيُفعل به حتى لو أنكر ذلك أو لم يتخيله. فاللهم يا واسع المغفرة، ارزقنا البر بوالدينا مطيعين لهما غير عاصين، واجعلنا من البارين بهما، إنك نعم المولى ونعم النصير.