15 سبتمبر 2025

تسجيل

فرنسا ومسلموها بين العنصرية وقيم الجمهورية

29 أغسطس 2016

يوم الجمعة الماضي في باريس ألغى مجلس الدولة أعلى هيئة قضائية تلك القرارات العشوائية التي اتخذها بعض عمداء مدن فرنسية ساحلية لمنع النساء المسلمات من ارتداء (مايوه) شرعي للسباحة لأسباب سخيفة تتعلق بجلب الناخبين من الأحزاب اليمينية العنصرية إلى حظيرة أحزابهم وحتى يتجدد انتخابهم! وتداول الناس هنا فيديو على مواقع الاتصال يجلب العار لمن أساؤوا لسيدة محجبة لم تعتد على أحد ومع الأسف لهذه الدولة التي تأسست فيها مواثيق حقوق الإنسان ويظهر فيه بعض رجال الشرطة يجبرون سيدة فرنسية مسلمة على نزع ثيابها أمام أولادها وأمام جمهور فرنسي ساكت لم يستوعب خطورة هذه الممارسة الاعتباطية. وعلق بعض الفاسبوكيين قائلين: ما الفرق إذن بين دواعش يجبرون المرأة على لبس الحجاب وبين شرطة فرنسية تجبرها على نزعه؟ كلاهما لا يحترم لا الحرية ولا المعتقد! بهذا القرار العادل من مجلس الدولة تستعيد الجمهورية الفرنسية قيم العلمانية الحقيقية القائمة على احترام كل الأديان ولا تسمح بشن حرب على دين من الأديان لأنه فقط مختلف! انتصرت فرنسا الإنسانية ذات القيم الجمهورية العلمانية على فرنسا العنصرية الجهولة ذات الذاكرة الحية من عهد الاستعمار. والأحداث الأخيرة كما عشناها تختصر في مشادة وقعت منذ أسبوعين في أحد شواطئ جزيرة كورسيكا حين تهاوش شباب فرنسيون مع شباب مسلمين حول إحدى أخواتهم المحجبة فصارت بين الجانبين مشادة عادية كما يقع يوميا في أي مكان في العالم لكن هذه الحادثة البسيطة أخذت أبعادا سوسيولوجية وسياسية أكبر من حجمها فوظفتها التيارات اليمينية لغايات انتخابية وبدأ بعض رؤساء البلديات يتبارون في إصدار قرارات لمنع ما سموه تندرا (البركيني) أي مزج كلمتي بيكيني وبرقع. وبدأ أوروبيون من أبناء الاتحاد الأوروبي ومن الغرب يستهجنون هذه القرارات لما تحمله من إذكاء الكراهية بين أفراد الشعب الواحد وصب الزيت على نار الحركات العنصرية لإعلان حرب اجتماعية ضد دين من الأديان وتكلم عمدة لندن الصادق خان الذي تربى على القيم الإسلامية، ولم يتنصل يوما من الإعلان عن أهمية عقيدته، وفي أول خطاب له كعضو بالبرلمان تحدث كيف أن أباه علمه حديث النبي محمد (صلى الله عليه وآله) أن الشخص الذي يجد شيئا خطأ عليه أن يعمل على تغييره (من رأى منكم منكرا فليغيره..".). فقال إن ما وقع في فرنسا خطأ يجب تغييره. وبالفعل غير مجلس الدولة هذا المنكر. كما تكلم رئيس الشرطة في سكتلندة (فيل غورملي) قائلا إن بلاده تشغل في شرطتها سيدات مسلمات وأقرت لهن لباسا رسميا بالحجاب احتراما لعقيدتهن. وحتى في صلب قمة السلطة في باريس ذاتها عبرت وزيرة التربية والتعليم السيدة نجاة بلقاسم (وهي من أصل مغربي كانت راعية أغنام في المغرب وأصبحت وزيرة في فرنسا) عن رأيها بحماس لتعارض رئيس حكومتها السيد (فالس) فقالت إنها تعتبر منع اللباس الشرعي خطأ وتدشينا لمرحلة خطيرة من الحقد على خمسة ملايين مسلم مقيم في فرنسا أربعة أخماسهم حاصلون على الجنسية الفرنسية ومنهم الأطباء والمهندسون والعلماء وأبطال أولمبيون ورؤساء شركات ومصارف وكوادر عليا في الإدارة والأمن. أنا شخصيا أعيش في فرنسا منذ ثلث قرن حين جئتها منفيا من وطني مع رفاق درب من قدماء وزراء بورقيبة فآوتنا فرنسا ومنحتنا اللجوء السياسي وولد أولادي هنا وتربوا ما بين فرنسا ودولة قطر التي كانت الدولة العربية الوحيدة التي وهبتنا الأمان وشرف العمل فيها كما كنا نشارك في مؤتمرات فكرية في عديد الدول الأوروبية والخليجية. وكانت حياتنا في فرنسا متميزة بسبب ثراء الثقافة وتنوع الأعراق وتوافر هامش الحرية المضمون بالدستور فلم نشعر يوما أننا مظلومون أو مضطهدون بل بالعكس وجدنا من بين نخبتها في أعلى المستويات من ساندنا وحمانا حين كنا مهددين بالمحاكمات الكيدية ومخاطر الجلب عن طريق إنتربول في بداية التسعينيات. وأراد الله سبحانه أن نعود إلى بلادنا بعد عشرين عاما لا لنقيم فيها بل للزيارة واستعادة ما استطعنا استعادته من بيوتنا المصادرة والمسروقة وذكريات شبابنا العالقة بذاكرتنا وتلاوة الفاتحة على قبور آبائنا وأمهاتنا الذين لم نودعهم ولم نمش في جنائزهم ولكن مع السنوات ومرور الزمن فإن أولادنا اندمجوا في المجتمع الفرنسي اندماجا كاملا لولا بعض القيم الأصيلة التي حرصنا على غرسها في عقولهم فنشأوا كسائر عيال الخمسة ملايين مسلم في فرنسا وبالرغم عنا انقطعت صلتهم بوطنهم الأصلي تدريجيا خاصة بعد ما سمي بالربيع العربي الذي فجر أحقادا دفينة وأنتج عنفا تحول إلى إرهاب وعانت تونس بأقل من معاناة ليبيا وسوريا واليمن والعراق لكنها لم تنج من توابع الاستبداد الذي كبلها وغطى معضلاتها على مدى ستين عاما وهي تركة أسأل الله أن يعين على معالجتها رئيس الحكومة الشاب يوسف الشاهد الذي أشفق عليه من هذا الحمل الثقيل. اليوم نحن نعيش في مجتمع فرنسي مختلف تماما عن ذلك الذي درسنا في جامعاته طلابا ثم آوانا منفيين واحتضننا وأنصفنا لأن البحر الأبيض المتوسط الذي كان بحيرة تواصل وتبادل ثقافي وتجاري تحول إلى جسر تعبر منه فواجعنا العربية والإفريقية إلى القارة الأوروبية مع استفحال الأزمات الإقليمية واندلاع الحروب الأهلية فبدأت موجات الهجرات المليونية تحط على سواحل أوروبا قادمة على مراكب الموت واليأس طلبا للنجاة بالنفس والأطفال من موت محقق تحت القصف. ثم إن آلاف الشباب الأوروبيين جنسية أو عرقا (وأغلبهم من فرنسا) استقطبتهم المواقع الإرهابية أو جندتهم بعض الوكالات المشبوهة ليتحولوا إلى قتلة وانتحاريين وهم من نتاج مزدوج، أي ضحايا عجز الدول العربية والإفريقية عن توفير الحد الأدنى لهم من الشغل والكرامة والحرية والأمان من جهة وفشل الدولة الفرنسية في إدماجهم السليم في المجتمع من جهة ثانية فنشأ أغلبهم في الأحياء المهمشة ونجح منهم من نجح في الارتقاء بالمصعد الاجتماعي ولكن فشل منهم البعض وشعر أنه منبوذ لا يحصل على شغل ولا يجد أيادي تنتشله وبالطبع مارس بعض هؤلاء الإرهاب ضد مواطنين مدنيين أبرياء من جميع الأديان في أحداث دموية ظلت عالقة بوجدان الشعب الفرنسي المصدوم ونشأ لدى المواطن الفرنسي خوف لا من الإرهاب بل من الإسلام ذاته وهو شعور استغلته التيارات اليمينية المتطرفة التي تريد تدليس التاريخ وطمس الحقائق وأولاها أن المسلمين أسهموا في تحرير فرنسا من الاحتلال النازي الألماني سنة 1944عندما جهز الجنرال (لوكلارك) جيشا من المغاربيين والسنغاليين وعبر بهم البحر ليكونوا أول من يتصدى للجيش الألماني في جنوب فرنسا كما أسهم المسلمون المهاجرون في الستينيات في بناء أغلب البنية التحتية الفرنسية ثم أسهموا في إشعاع الثقافة الفرنسية وإنعاش الاقتصاد الفرنسي وهم مواطنون مندمجون في قيم الجمهورية لكن أغلبهم يشعرون بانتمائهم إلى الإسلام السمح المتعايش مع قيم الجمهورية وأخلاقها واحترامها للدستور والقانون.