12 سبتمبر 2025
تسجيلكان من المأمول أن يكون في السجن لا أن يكون ضيفاً على مشرعين في أكبر جهاز تشريعي في العالم، والدعوة في نظر الكثيرين كانت سقطة واستفزازا للمشاعر، بل وصادمة للعالم أجمع. كما تضررت إلى حد كبير صورة (الكابيتول) وهو رمز لأعرق الديمقراطيات في التاريخ. الغرابة والاستهجان لا ينحصران في الدعوة بحد ذاتها وفي هذا الظرف بالذات وجريمة الابادة الجماعية والتهجير والتطهير العرقي تجري حتى الساعة ودون هوادة، بل في هذا الحماس المنقطع النظير والترحيب المبالغ فيه عمداً! بينما لا يستحق عنونة الخطاب بأفضل من (فن تزوير الوقائع وقلب الحقائق.. بلا حدود!). هذا هو الخطاب الرابع يلقيه نتن ياهو امام الكونغرس منذ ان تقلد منصب رئيس الوزراء، وقال لهم فيه باختصار (هذه رؤيتي وعليكم التكيف معها، وهؤلاء هم اعدائي وعليكم الاستعداد لهم). تضمن الخطاب وعلى مدى خمس وخمسين دقيقة، خمسا وخمسين كذبة قام لها المشرعون وقعدوا خمسا وخمسين مرة وصفقوا بحماس مفرط! وربما كانوا حريصين على ألا تفوتهم لقطة كاميرا او عين راصد ورضا منظمة (الآيباك) غاية وأمل ان لم تكن خوفا ورهبة!. وفي كل مرة كان التصفيق يدوي في ارجاء الصالة كانت الدماء تسيل على ارض غزة، اما لقتل طفل او امرأة او رجل او شيخ عجوز، لقد جاء لواشنطن ولم يسأله أحد: ترى كيف تركت غزة؟ كيف اهملت الاسرى كل هذه الفترة؟ وما تنوي فعله في اليوم التالي؟. غاب، وتعفف عن هذا الموقف المخجل، رغم الترغيب والترهيب، كوكبة من 124 عضوا احترموا انفسهم وقرروا النأي بالنفس ولم يشاركوا، أما كيف امتلأت مقاعد الصالة فالفضل يعود إلى امريكيين من العامة استدعوا على عجل للضرورة وما هم بأعضاء كونغرس!. مهما توسعنا في الحديث عن سلوك واخلاق نتن ياهو فلن نضيف جديداً، فقد عرفته الارض المحتلة بل والبشرية اجمع بأنه «الاكذب» والاوحش، والأبشع، والأرهب في ارتكاب جرائم الفصل العنصري والتهجير القسري والابادة وجرائم ضد الإنسانية. لكن السؤال يوجه لحفدة «الآباء المؤسسين» اولئك الذين كتبوا وثيقة الاستقلال والدستور الأمريكي وحرصوا ان تكون ركائزه: العدالة، والحرية، والمساواة، والحق في السعي وراء السعادة.. اين باتوا من هذه المبادئ الرفيعة؟ لقد حنثوا بقسمهم في الالتزام بالدستور الأمريكي والمبادئ التي كتب على اساسها، واعلنوا اصطفافهم وتأييدهم لجزار أعاد إلى الأذهان الهولوكوست / المحرقة ولكن بصورة أبشع، وما تشاهد بأم عينيك على مدار الساعة، غير ما تسمع او تقرأ. لقد اهتزت بقوة صورة الولايات المتحدة في العدوان على غزة امام العالم، ولن يكون من السهل ترميمها، وفي الذاكرة مغامرات فاشلة كالحرب على فيتنام (1955-1973) وافغانستان (2001-2021) والعراق (2003). وكان من المأمول ان تكون قد خرجت الدولة بعدها بدروس وعبر، تعينها على المراجعة وتصويب السياسات مستقبلاً. لكن يبدو ذلك لم يحصل، ومبدأ “شرعية القوة“ لا زال هو السائد في عقلية صانع القرار الأمريكي، التنفيذي منه والتشريعي، والموقف من العدوان على غزة كان منحازا عدوانياً بشكل صارخ، وكان الانطباع حتى الرابع والعشرين من الشهر الجاري ان عراب هذا الموقف هو الرئيس الأمريكي جو بايدن! ولكن بعد انضمام المشرعين تبين ان المشرعين لا يقلون تحيزاً ولا عدوانية عن ساكن البيت الأبيض، لقد صرح رئيس مجلس النواب مايك جونسون «إسرائيل لا تقف وحدها بل نقف معها كأقرب حلفائها في الشرق الأوسط»، وفي دعوة نتن ياهو (نحن نتطلع إلى الاستماع إلى وجهة نظر إسرائيل في كيفية الدفاع عن الديمقراطية، ومحاربة الإرهاب، وتكريس العدالة والسلام المستدام في المنطقة)! آمال تعلق على نتن ياهو بدل تقديمه للعدالة. كما صرح الشيخ الديمقراطي تشاك شومر (علاقتنا مع إسرائيل متينة للغاية مثل الحديد Ironic clad). وربما هذا الموقف الداعم بالمطلق هو الذي أوغر صدر نتن ياهو ودفعه للجنون والسادية المفرطة. لكن بالمقابل هل راعى نتن ياهو الحرج الكبير الذي تعاني منه الادارة الأمريكية وهو حتى اللحظة يرفض الاستجابة لقرار مجلس الامن ذي المراحل الثلاث والذي تبتنه الادارة الأمريكية، وتوقع الكثيرون انه خلال الخطاب سيبشر الأمريكيين وأهالي الاسرى في الداخل الاسرائيلي بموافقته على الصفقة لكنه لن يفعل، انسجاماً مع فهمه للعلاقة الخاصة بين اسرائيل والولايات المتحدة انها سالكة لكن على مسار واحد، اذ يتوجب على الأخيرة ان تدعم اسرائيل عسكريا وتحميها سياسياً، ودون مقابل، وسواء تلاقت مع المصالح الأمريكية ام افترقت عنها؟ مصلحة اسرائيل أولاً وبذلك تصبح اسرائيل مارقة دولياً متنمرة على صعيد العلاقة الثنائية، رغم ان العلاقة ما كانت يوماً هكذا بل سالكة على مسارين، لم يتوقف الدعم السياسي والعسكري والمالي يوماً لكن يسعنا ان نتذكر ان اسرائيل كانت تستجيب على الفور في كل مرة لرغبة واشنطن في وقف اطلاق النار، وهو ما تحقق فعلاً في العدوان على مصر عام 1956. وحرب الخامس من حزيران 1967، وحرب رمضان عام 1973 ناهيك طبعا عن الحروب اللاحقة على غزة. جاءت الزيارة، في ظل عزلة وانتقاد واسع النطاق اضافة إلى احتمال كبير ان يصدر النائب العام بالمحكمة الجنائية الدولية مذكرة توقيف بحق نتن ياهو كمجرم حرب. كما شكلت الحشود من المعارضين في الخارج مشكلة سياسية حاول المشرعون داخل القاعة تجنبها. اما خطابه الاستعراضي فلم يضف نتن ياهو أي شيء جديد إلى أكاذيبه السابقة، وحاول فقط إعادة إسرائيل إلى مركز الخريطة السياسية، وإعادة خلق إجماع بين الحزبين حول إسرائيل، ولم ينجح في ذلك». اما الصحافة الأمريكية فقد انتقدت خطاب نتنياهو، وقالت وكالة أسوشيتد برس على سبيل المثال، إن «نتنياهو الذي تزايدت الانتقادات ضده داخل إسرائيل يهدف إلى تصوير نفسه كرجل دولة لا زال يحظى باحترام الولايات المتحدة، اما العلاقة بين الولايات المتحدة وإسرائيل فما عادت ملتبسة ويخطئ من يظن ان إسرائيل ما هي إلا ولاية أمريكية! والعكس يبدو هو الصحيح والأسباب معروفة.