17 سبتمبر 2025
تسجيلفي التاريخ القديم وحتى المعاصر، كان شهر رمضان المبارك عنوانا للجهاد الحقيقي ضد أعداء الأمة وهزيمتهم وإنهاء تأثيراتهم ورسم خرائط جديدة وملامح مراحل مغايرة تماما، بعضها كان فاصلا في تاريخ الإسلام ذاته. مثلما وقع في غزوة بدر الكبرى في العام الثاني من هجرة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم إلى المدينة المنورة في السابع عشر من الشهر الكريم. وهي الغزوة التي وصفها الله سبحانه وتعالى في كتابه المنزل على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم بالفرقان، أي الفارقة بين مرحلة ومرحلة، وفي ضوء نتائجها الحاسمة تبلورت قسمات الدولة الإسلامية وقدراتها وإمكاناتها وتصوراتها للزمن الآتي. ثم وقع حدث مفصلي شديد الأهمية في الشهر الكريم، وهو فتح مكة في العام الثامن الهجري والذي ترتب عليه انهيار أسطورة الذين تحدوا الدين الجديد، وحاربوه بكل الوسائل ساعين إلى إجهاض رسالة محمد صلى الله عليه وسلم، المحملة بروح التغيير، لما اعتادوا عليه وورثوه من سطوة ونفوذ وسلطان في الجزيرة العربية. وتتالت بعد ذلك العديد من الوقائع والغزوات والانتصارات التي تكللت بالنجاحات، محققة تغييرات نوعية على صعيد تمدد الدولة الإسلامية ومشروعها للنهوض بالأمة، والتي غدت بالفعل القوة الأهم في العالم بعد أن تمكنت جيوشها ودعوتها الإصلاحية والثورية في آن، من القضاء على الدولة الرومانية والدولة الفارسية وذوبان الكثير من شعوبها في الدين الجديد، ثم جاءت محطات أخرى فيما بعد متجلية في الانتصارات التي حققها صلاح الدين الأيوبي على الصليبيين في موقعة حطين الشهيرة، ثم هزيمة جحافل المغول القادمين بقوة من الشرق، مدمرين كل من يقف في طريقهم بما في ذلك الدولة العباسية التي كانت عنوانا للقوة، وإن كانت قد اهتزت مكانتها في آخر أيامها في موقعة عين جالوت بقيادة سيف الدين قطز سلطان مصر وقائده العسكري المتميز الظاهر بيبرس.ويتجسد أنموذج الانتصار الذي حققه العرب والمسلمون في التاريخ المعاصر في حرب العاشر من شهر رمضان من العام 1393 هجري الموافق السادس من أكتوبر 1973، بعد أن تكامل الجيش المصري والجيش السوري في شن حرب مفاجئة كانت شديدة الوطء على العدو الذي يحتل كلا من سيناء وهضبة الجولان. ونجح العرب لأول مرة في إلحاق هزيمة مريرة بجيش العدو الذي كان يوصف بأنه لا يقهر، فضلا عن كسر نظرية الأمن الصهيونية التي ظلت مهيمنة على المشهد العربي منذ النشوء الباطل للكيان الصيهيوني في العام 1948. ألفت إلى كل هذه الوقائع ربما بقدر من التفصيل، وإن كان ليس مخلا للبرهنة على صحة الافتراض الذي طرحته في صدر هذا المقال، والذي ينظر إلى شهر رمضان المبارك بحسبانه شهر الجهاد وتحقيق الانتصارات على أعداء الأمة. وذلك على عكس ممارسات التنظيمات الإرهابية التي تتخذ من الإسلام عنوانا وعباءة وأرضية للأسف تنطلق منها لتحقيق مآربها وأهدافها العدوانية، مستغلة الشهر الكريم وتحت راية الجهاد المقدس في نظرها، فتصب نيرانها على مسلمين ومدنيين، سواء من داخل الأوطان العربية، أو قدموا زوارا من خارجها. فتقتل وتصيب المئات وتدمر المرافق والمنشآت وحتى بيوت الله لا تنجو من نيرانها فتحرق وتخرب وكله باسم الجهاد. مثلما حدث يوم الجمعة الفائت، عندما مارس الإرهابيون تحت عباءة الجهاد الإسلامي عمليات قتل شديدة الدموية في كل من الكويت وتونس أسفرت عن سقوط 25 قتيلاً و202 جريح في أول اعتداء يتبناه تنظيم داعش الإرهابي في الكويت، استهدف بهجوم انتحاري مسجداً بينما لقي 37 من السياح الأجانب مصرعهم وأصيب 36 آخرون في تفجير انتحاري نفذه مسلح في منتجع في سوسة في تونس ينتمي لتنظيم متطرف قد يأخذ اسم داعش أو غيره من التنظيمات التي باتت منتشرة في جسد الأمة على نحو سرطاني.وفي التوقيت ذاته تعرض مصنع للغاز في مدينة ليون بوسط شرقي فرنسا لهجوم انتحاري تبناه تنظيم لا يقل إرهابية عن داعش أو القاعدة بعد أن قام بقطع رأس مدير المصنع وتعليقه على سياج تاركا كتابات باللغة العربية في إشارة إلى جذوره وانتمائه لحفر المزيد من علامات التشويه للدين الإسلامي والأمة لدى الغرب.وبالطبع يوم الجمعة الفائت كان مجرد يوم في مسارات الدم في المنطقة العربية وإن كان من أشدها غزارة من فرط انتشار الفعل الإرهابي والذي أضحى واحدا من سمات المنطقة ويطور من أساليبه ويوسع دوائر نفوذه وتمدده حتى بات يحكم أكثر من نصف سوريا وثلث العراق ويسعى بقوة لتكريس حضوره في ليبيا واليمن ولبنان لم يعد بمنأى من تداعياته فضلا عن مصر التي تكابد حربا يومية من قبل تنظيماته.إذن المشهد الإرهابي بات من الخطورة بمكان واللافت أن كل الجهود والخطط والإستراتيجيات التي تم الحديث عنها بعد تمدد تنظيم داعش في العراق وسوريا لم تفلح في وقف هذا التمدد والذي يحاول أن يقترب من الكويت بعد أن طال السعودية خلال الفترة الأخيرة سائرا على نفس الحرب الطائفية المذهبية. مستغلا الأقليات التي تنتمي إلى المذهب الشيعي في الدولتين اللتين تتمتعان بأغلبية سنية. سعيا من داعش لإحداث فجوة طائفية تمكنه- إن تحققت لا قدر الله - من تحقيق أهدافه الخبيثة.وفي تقديري، فإن مقاربة مغايرة باتت مطلوبة للتعامل مع الفعل الإرهابي السائد في المنطقة، تتكئ أولا على تجاوز وسائل الحرب التي استخدمت ضد تنظيماته، وثبت عجزها وفشلها في القضاء عليها وعلى الأقل الحد من انتشارها وتمددها، بل إنها في ظل هذه الوسائل، وفي مقدمتها التحالف الدولي المكتفي بشن غارات جوية فقط والمكون من أكثر من 40 دولة بقيادة الولايات المتحدة ومشاركة بعض دول المنطقة وغيرها من دول العالم. تحقق المزيد من المكاسب والتحولات النوعية وتستعيد مناطق أجبرت على مغادرتها، مثلما حدث في الرمادي بالعراق ثم بعين العرب "كوباني" بسوريا.إن الوسيلة الناجعة - في رأي معظم الخبراء- تكمن في اللجوء إلى حرب برية واسعة بمشاركة الأطراف المؤثرة في المنطقة. وبالتعاون مع القوى الدولية المهمة صاحبة المصلحة في القضاء على هذه التنظيمات الإرهابية، وتجاوز حالة التردد والتلكؤ السائدة من خلال منظور إستراتيجي عسكري شامل يعتمد على الإعداد الجيد والتدريب المكثف والمتابعة المعلوماتية الفعالة. إلى جانب العمل على فك الاشتباك بين بعض النظم العربية وحالة الاحتقان السياسي والطائفي والمذهبي السائدة فيها، وفي مقدمتها الحالة العراقية، حيث لم تنجح حكومة حيدر العبادي من تأثيرات الأجهزة العميقة التي صنعها سلفه نور المالكي على مدى سنوات حكمه، والتي تصاعد فيها المنحى الطائفي والمذهبي على نحو مرعب. وفي سوريا بات تغيير النظام من الضرورة بمكان للخلاص من الفعل الإرهابي، والذي نتج بالأساس عن سياساته الاستبدادية والقمعية، فضلا عن تمييزه بين مواطنيه على أساس طائفي ومذهبي.بالطبع هذا مسار قصير ومتوسط الأمد في التعامل مع الفعل الإرهابي، بيد أن ثمة مسارات طويلة الأمد تتطلب تغييرا في مفردات الواقع العربي، ثقافيا وتعليميا واجتماعيا وسياسيا، بهدف تغيير بنية هذا الواقع، نحو أنساق أكثر تفاعلا مع المواطن ومتطلباته وأشواقه الكبرى، في الحرية والديمقراطية والكرامة والعدالة الاجتماعية.