16 سبتمبر 2025

تسجيل

رزق الله

29 يونيو 2014

كم يحمل الناسُ همّ الرزق، ويشغل بالهم التفكير به، وكم يُعنِّي أبدانهم السعي وراء تحصيله، وهم في ذلك على ثلاثة أصناف، صنفٌ خاملٌ متواكلٌ، يتمنى على الله الأمانيّ، لم يأخذ بالأسباب، وإنما أخذ بالدعاء فحسب، وصنف ثانٍ، ساعٍ كادحٌ على طلب رزقه، ولكنه يطلبه من غير باب الله الرزاق، وصنف ثالث، أخذ بالأسباب، ولكنه تعلق بها أشد التعلق، واعتمد عليها كلَّ الاعتماد، واعتقد أن الرزق آتيه منها وبسببها، ونسي - هداه الله - دعاء ورجاء، مسبب الأسباب، ورازق الأرباب. إن ما يجب على كل عاقلٍ معرفته وإدراكه، أن كل شيءٍ خلقه الله، خلق معه رزقه، وأنه تعالى متكفلٌ برزقه، ضامنٌ له به، هذا ما جاء في القرآن صريحاً في قول المولى عز وجل: (وما من دابّةٍ في الأرض إلا على الله رزقها)، ودابة: اسمٌ جامعٌ لكل ما دبّ وخب على وجه الأرض، من المخلوقات، كائناً ما كان، ولا شك أن الإنسان أكرم ما دب منها على سطح الأرض، بمقتضى قوله تعالى: (ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البرِّ والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثيرٍ ممن خلقنا تفضيلا)، وانظر أيرزق اللهُ غير الإنسان من الحيوانات والحشرات والطيور، ويدعه وهو أكرم عليه من سواه مما خلق؟! ألا إن رزق الله مضمون مكفولٌ آتٍ لا ريب ولا محالة، إن لم تأته أتاك، وإن لم تسعَ إليه سعى إليك، لابد أن يصيبك، ما دام قد قسم لك، لن يزيد فيه حرصك وتعبك، ولن ينقص منه تفريطك ودَعَتُك، ولن تنالَ أكثر منه بسعيك الجاد، وذكائك الحاد، واحتيالك في كل واد، جاء في الحديث: (إن الرزقَ ليطلُبُ العبدَ، كما يطلبه أجله)، وصدق أبو تمام إذ قال:لو كانت الأرزاقُ تجري على الحِجاهلَكْنَ إذن من جهلنَّ البهائمورحم الله القائل:لا تعجِلنَّ فليس الرزقُ بالعجَلِالرزقُ في اللوحِ مكتوبٌ مع الأجلفلو صبرنا لكان الرزقُ يطلبنالكنّه خُلِقَ الإنسانُ من عَجَلِولآخر:لا تطلُبِ الدنيا بطول تركُّضٍفالرزق أقسامٌ بها وأحاظِ* أحاظ: جمع حظ.فعلام الهم والحزن؟ وعلامَ الخوف والقلق؟ مرَّ رسول الله بابن مسعود فقال: (لا تكثر همّك، فإنه ما يقدَّرْ يكن، وما تُرزق يأتِك).. قال محمد بن زُريق البغدادي في قصيدته المشهورة:وما مجاهدةُ الإنسانِ توصِلُهرزقاً، ولا دَعَةُ الإنسان تَقطَعُهُوالله قسم بين الخلقِ رزْقَهُمُلم يخْلُقِ اللهُ مخلوقاً يضيّعُهُيقول الله جل وعلا: (وفي السماء رزقكم وما توعدون)، تأمل قوله تعالى: (في السماء)، وليس في الأرض، أي عنده جلّ في علاه، وعَظُم في فضله، وإن هذا لَمن رحمته الواسعة؛ لأنه لو كان الرزق ينال بحسب الجد والكد في الأرض، وبقدر ما يستطيع الإنسان، أن يبسط يده عليه، لغدت الأرض ساحة معركة وقتال، ولاستحالت إلى غابة صراع ونزاع، البقاء فيها للأقوى، وكما قال الله سبحانه: (ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض ولكن ينزِّل بقدرٍ ما يشاء إنه بعباده خبيرٌ بصير)، ولمّا كان سبحانه عالمٌ بطبيعة البشر، وبخلجات نفوسهم وسرائرها، (ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه)، علم ما فيهم من ضعف وخوف، وما يدخل عليهم من شكٍ وقلق في مسألة الرزق، فأقسم على ما قاله، مكرراً في قسمه لفظة السماء، ومضيفاً إلى القسم، مؤكدين هما «إنّ واللام»، فقال جل ثناؤه: (فورب السماء والأرض إنه لحقٌ مثل ما أنكم تنطقون).وانظر قوله تعالى: (مثل ما أنكم تنطقون)، فلمَ ختمت الآية بكلمة تنطقون؟ وليس مثلاً بكلمة تنظرون أو تأكلون أو تسعون أو غيرها.. إنها إشارة إلى أن الله تعالى الذي أنطقك بالسؤال، وجعلك تدعوه بالرزق، جعل لك رزقاً كما جعل لك نُطقاً، وسيعطيك سُؤلك، وسيجيب دعوتك، فيجلبُ الرزق لك؛ وإلا لَما جعلك تنطق وتسأل ابتداءً، وفي هذا كل الرحمة والرأفة، والكفالة والرعاية بعباده.