17 سبتمبر 2025

تسجيل

السياب وحظوظ الشعراء

29 مايو 2014

خلال حياتهم القصيرة أو الطويلة، تتفاوت حظوظ الناس أجمعين، وكذلك الحال فيما يتعلق بشعرائنا العرب على امتداد عصور الأدب العربي، منذ العصر الذي نسميه – ظلما – العصر الجاهلي حتى عصرنا الحديث. هنا أتذكر شاعرين عاشا صديقين حميمين وكانا ينتميان لجيل واحد – جيل الرومانسية العربية، فقد حظي أحدهما وهو علي محمود طه بحفلات تكريم عديدة كما كانت دواوينه تطبع طباعة فاخرة، فضلا عن تغني المطربين والمطربات بقصائده، أما الشاعر الثاني وهو الدكتور إبراهيم ناجي فكان يتمنى أن تغني أم كلثوم ولو قصيدة واحدة من شعره، لكن أمنيته لم تتحقق إلا بعد رحيله عن دنيانا، ومما يدعو للعجب أنه أصبح شهيرا ومرموقا بعد رحيله، بينما نسي الناس علي محمود طه .وفي أجواء معايشتنا لذكرى مرور نصف قرن بالتمام والكمال على رحيله ، أظن أن كثيرين يتذكرون معي بدر شاكر السياب – الشاعر الكبير الذي رحل عن عالمنا يوم 24 ديسمبر سنة 1964 بعد أن عاش حياة قصيرة لم تتجاوز ثماني وثلاثين سنة، لكنها رغم قصرها كانت شديدة الوطأة على روحه المرهفة من فرط ما ألم به من محن متعاقبة، وعلى سبيل المثال فإنه ذاق مرارة اليتم وهو في السادسة من عمره عندما فقد أمه، ثم فقد جدته التي كانت ترعاه وتحنو عليه، وقد ظلت مشاعر اليتم والفقد تسيطر عليه دون أن يستطيع التملص والتخلص منها، وكم من مرة حاول فيها – خلال مرحلة دراسته الجامعية – أن يخترع قصص الحب الرومانسي، لكنه كان يدرك بعدها أنه لا يخدع أحدا بتلك القصص بقدر ما يخدع نفسه، ومن قصائد تلك المرحلة الجامعية قصيدة حلوة، كتبها بعد أن استعارت منه إحدى زميلاته مخطوط ديوان شعره ، حيث ظل يحسد الديوان رغم أنه صاحبه ومبدع قصائده : يا ليتني أصبحت ديواني أختال من صدر إلى ثان قد بت من حسد أقول له يا ليت من تهواك تهواني ألك الكؤوس ولي ثمالتها ولك الخلود وإنني فان !وبعيدا عن الحب الذي ظل يخترعه ويتصور أنه واقع حي ينعم به ، فإنه تعرض للملاحقة وللسجن أكثر من مرة بسبب نشاطاته السياسية ، كما فر من وطنه العراق إلى إيران وإلى الكويت، وفي السنوات الأخيرة من حياته داهمه مرض غريب وغامض ، حير الأطباء واضطره إلى كتابة قصائد مدح يشيد فيها بمنجزات عبد الكريم قاسم لكي يساعده ذاك الذي كان يلقب بالزعيم الأوحد بالمال الذي يكفل له أن يشتري ما يلزم من دواء !وعلى الرغم من غزارة عطاء بدر شاكر السياب ، فإنه لم يظفر إلا ببعض المقالات الصحفية المتسرعة طيلة حياته، لكن الغريب والعجيب أن النقاد والأدباء أخذوا يتسابقون في الكتابة عنه بعد رحيله عن عالمنا، ولم يقتصر الأمر على الساحة الأدبية العراقية وحدها بل تجاوزها إلى سائر الأرض العربية، كما أن كثيرين من المستشرقين قد كتبوا عنه ومن بينهم المستشرق الفرنسي جاك بيرك، أما من العرب فيكفي أن نذكر ممن كتبوا عن هذا الشاعر العظيم أسماء الدكاترة إحسان عباس وعيسى بلاطة وعز الدين إسماعيل ولويس عوض ، فضلا عن رسائل الماجستير والدكتوراة التي أعدها باحثون أكاديميون ، وهم من جنسيات عربية متعددة ، وباختصار فإن الشاعر الذي لم بنل ما يستحقه من تكريم طيلة حياته القصيرة قد أصبح بعد رحيله اسما مرموقا على امتداد الأرض العربية كلها وهكذا تتفاوت حظوظ الناس ومن بينهم الشعراء!