27 أكتوبر 2025
تسجيليخطأ من لا يعتبر بالزلازل التي هزت العالم العربي منذ أسابيع قليلة وكان مركزها تونس وهي زلازل بلغت سبعة على سلم ريختر الحضاري ومثل سائر الزلازل لا تنجو من مراحل توابع من جراء فقدان البوصلة. لكني أظل مؤمنا كما كتبت وأعلنت ذلك منذ زمن بعيد بأن مخاطر الحرية أفضل ألف مرة من مخاطر الاستبداد وأن تسونامي الديمقراطية أرفق من فيضانات القمع. واليوم تجد النخب العربية هنا وهناك نفسها أمام واقع حصري جديد واستثنائي وأحيانا تفيق من سباتها لتكتشف أنها تمسك بالسلطة أو بجزء منها وهي لم تتهيأ بالقدر الكافي لتحمل الأمانة الثقيلة وفي أغلب الأحيان والأوطان تجد نفسها مضطرة لتطهير إسطبلات الأنظمة الفاسدة بعد عقود من غياب السياسة والشفافية والحريات. وإني أعرف شخصيا معارضين من أصدقائي كانوا في السجون والمنافي ثم أصبحوا يمسكون ببعض خيوط القرار واكتشفوا اليوم أن أطيافا شابة من شعوبهم تطالبهم بالإصلاح والتغيير وتجسيد طموحات الثورات ولكنهم وهم يجلسون على نفس كراسي من سبقوهم يجدون أنهم لا يملكون عصا سحرية فالموارد شحيحة أو مفقودة والدولة هشة أو مهزوزة والأمن سراب أو تخبط! وأدرك الكثير منهم بأن شباب الثورة لا يعترف بسقف معقول في التدرج والإصلاح ولعل الإحباط أصاب بعض هؤلاء فاستقالوا أو فضلوا الوقوف على مسافة من الأحداث حتى يتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود في مسيرة التاريخ الحديث. ولهذه الأسباب سأظل أدعو إلى الوفاق الوطني في تونس ومصر وليبيا واليمن وسوريا والبحرين بعد إنهاء عهد الظلم والفساد وتغول المخابرات أي بعد إقرار عهد السياسة في معناها النبيل وعهد الحرية في أبعادها الشخصية والمدنية والجماعية. والوفاق هو الوقاية ضد الحقد وتصفية الحسابات الضيقة وملاحقة الخصوم بما يشبه محاكم التفتيش. ولا ننسى أن الثورات الصادقة كان من غاياتها الوفاق وتأسيس الأمان وإقرار العدالة. أحترم آراء الإخوة العرب الكرام الذين لا يرون فائدة من الأيدي الممدودة للمصافحة والذين يبررون مواقفهم بإخفاق التجارب الماضية بين السلط العربية ومخالفيها، لكن السياسة تتغير بتغير الظروف المحيطة بالوطن وفي صلب الوطن، فليس من المنطقي تأبيد وتحنيط العلاقات بين السلط وأطياف المجتمع المدني في مرحلة تاريخية بعينها دون أن تعتريها عوامل داخلية وخارجية تدفعها للتغيير وإعادة الصياغة. فنحن لا بد أن نتكيف مع هذه المتغيرات ولا نقنط من تغليب العقل على العواطف ولو كانت شرعية وجياشة، في مرحلة نراها جديدة من تاريخ عالمنا العربي، بفضل المراجعات الضرورية والحكيمة في الضفتين وإعادة النظر في نتائج المواقف هنا وهناك. فالسياسة كما يقول أحد زعماء فرنسا هي النتائج إلى جانب كونها هي المبادئ. وأنا أتساءل عما يمكن أن نحرك به السواكن، دون أن يفقد أحد ماء الوجه أو يتخلى عن ثوابته، لأننا بالسعي إلى المصالحة الممكنة نتخذ من الشعب شاهد حق، فهو المؤهل وحده لأداء الشهادة أمام التاريخ، في معزل عن الأيديولوجيات الجامدة والحسابات الشخصية وتراكمات الماضي الثقيلة. أما إذا استعرضنا التضحيات التي تحملها هذا أو ذاك من النشطاء وأصحاب الرأي فإننا لا نرى في المزايدة على بعضنا البعض إلا إهدارا للحوار الأمين ومضيعة للوقت الثمين، لأن كل الفرقاء لهم رصيد من التضحية متواز بشكل أو بآخر، وجميعهم من ذوي الوطنية والمبادئ العليا ومحبة أوطانهم، وإذا ما اختلفنا حول الطرق والمناهج فنحن من أبناء الوطن الواحد الذي سيبقى بعدنا لأطفالنا. ويعلم الله أني بحكم السن والتركيبة الفكرية ومعابر الحياة كنت شديد الصلة بشخصيات من داخل النظام في بلدان عربية عديدة أعتبرهم قمما في الاستقامة والإيمان والوطنية، كما أني أيضا وفي ظروف أخرى من حياتي كنت وثيق الصلة بشخصيات مختلفة مع السلطة ولكنها قمم في علو الأخلاق ورفعة الهمة وأمانة الضمير. وطالما قلت لنفسي من باب الأمانة الفكرية أيضا: يا لها من مكاسب غالية ومن منجزات رائدة ستحققها اليوم مجتمعاتنا العربية لو توفقنا إلى كسر حواجز الخوف وسوء التفاهم بين هؤلاء وأولئك، قاطعين مسالك النميمة والأحقاد الدفينة ورهن مصير الوطن في المواقف المتشنجة، فاتحين بعض أبواب الحوار الموصدة منذ ربع قرن. إن غايتنا هي رفض منطق الأبيض والأسود في تصنيف النخب العربية، وهو المنطق الذي أسميه منطق الفسطاطين (فسطاط الخير وفسطاط الشر!) وهو المنطق الذي يجعل الناس على ضفتي نهر من الماء الطامي كل ضفة تلوح بأنها تمسك بالحقيقة وتتهم الضفة الأخرى بالضلال، مع أن العقل يقتضي محاولة مد جسر على نهر الوطن. فمن يلومنا على محاولة مد جسر على النهر، داعين الناس في الضفتين للعبور واللقاء على الجسر لو توفرت نوايا الخير ووضع حد ولو تدريجيا للفرقة والشقاق والقطيعة. ثم إن الأيام القريبة القادمة هي التي ستحكم لنا أو علينا، والصبر الجميل صفة من صفات المسلم ومن صفات الوطني المخلص. فلماذا التنابز بألقاب أيديولوجية لا تخدم مصلحة بلادنا بينما لو قرأنا تاريخ الثورات والتحولات الكبرى التي سبقتنا لتعلمنا منها أن كثيرا منها صودرت وكثيرا منها أجهضت وكثيرا منها أنجبت دكتاتوريات حين تتغلب الأحقاد على المبادئ وحين تعلو أصوات الانتقام على أصوات الحكمة! تلك من سنن الله الخالدة.