17 سبتمبر 2025

تسجيل

القيروان في انتظار مدينتها الطبية

29 مارس 2021

حين تقرر تشييد المدينة الطبية في القيروان بتمويل كريم من دولة قطر لم يغب تاريخ القيروان قلعة الإسلام الأولى في أفريقيا عن ذاكرة حضرة صاحب السمو الشيخ تميم بن حمد أمير قطر المفدى، ولا عن ذاكرة الرئيس التونسي قيس سعيد، لأن القيروان هي التي تأسست فيها أول مدرسة للطب والصيدلة في العصر الأغلبي منذ ألف ومائة عام، وكانت أم الجامعات الطبية في العالم الإسلامي، نشأ فيها أشهر أطبائها إبراهيم بن الجزار وابن أخيه محمد بن الجزار طبيب الأطفال صاحب كتاب (سياسة الصبيان وتدبيرهم)، وإسحاق بن عمران أول الجراحين، وغيرهم من رواد العلوم العلاجية والدوائية. لم تنس قطر هذا المجد حين قررت تمويل بناء وتجهيز المدينة الطبية بالقيروان متعددة التخصصات، لتربط ماضي هذه المدينة العريقة بحاضرها، وتعيد لها تراثها العلمي، وهو ما أعلنه الرئيس قيس سعيد في زيارته للدوحة، وما أكده في زيارته الأخيرة للقيروان، أما العجيب المؤسف اليوم أن القيروان ليس فيها حتى مستشفى جامعي يليق بها ويوفر الخدمات الصحية الضرورية لساكنيها!. كما أن القيروان أيضا هي التي أسست القاهرة في عهد المعز لدين الله الفاطمي، والى اليوم تسمى القاهرة المعزية كما أسست الأزهر على أيدي جوهر الصقلي في 17 من شعبان 358هـ 6 يوليو969م والقيروان هي التي أوفدت بنت القيروان فاطمة الفهرية لتأسيس جامعة القرويين بمدينة فاس، فبنيت الجامعة كمؤسسة تعليمية لجامع القرويين عام 245 هـ/859م في مدينة فاس المغربية، وتعتبر جامعة القرويين أيضا أول مؤسسة علمية اخترعت الكراسي العلمية المتخصصة وإسداء الدرجات العلمية في العالم تخرج فيها علماء أوروبا والأندلس. ولكن مع الأسف أهملت القيروان منذ خرابها على أيدي غزوة بني هلال الى اليوم، بل إن الديوان الوطني التونسي للإحصاء صنف مدينة القيروان مسقط رأسي هذه الأيام على رأس قائمة الفقر لتصبح الأولى بين جهات الجمهورية التونسية في نسبة الفقر والبطالة وتفشي العنف وتفاقم الهجرة السرية وحتى في نسب انتحار الشباب والأطفال! وهي التي صنفها التاريخ الأولى في فتح أفريقيا سنة 50 هجرية، حينما وصلها المجاهد عقبة بن نافع فأسسها ثكنة لجيشه الإسلامي، وشيد فيها جامعها الأعظم أول منارة للدين الحنيف في أفريقيا وأول جامعة علمية أشعت على العالم بابن الجزار في طبه، والإمام سحنون باستقلال قضائه، والحصري بشعره (يا ليل الصب متى غده) وعبدالله بن أبي زيد بفقهه، وابن رشيق بكتابه (العمدة في الآداب)، ومن القيروان انطلقت فتوحات المسلمين نحو الأندلس تخرج منها علماء العرب والغرب وقد بقي الجامع والجامعة العلمية الملحقة به مركزا للنشاط الفكري والثقافي والديني قرابة الألف سنة درس فيها (سيلفستر الثاني) الذي لقب بـ (جربيرت دورياك) والذي شغل منصب بابا روما من عام 999 إلى 1003م ويقال إنه هو من أدخل بعد رجوعه إلى أوروبا الأرقام العربية. كما أن موسى بن ميمون الطبيب والفيلسوف اليهودي قضى فيها بضع سنوات، ثم قام بمزاولة التدريس في جامعة القرويين. القيروان كانت الأولى في مقاومة الاستعمار منذ حلوله بتونس سنة 1881 فتكونت فيها أولى خلايا المقاومة المسلحة للتنصير والاحتلال، وهي الأولى التي نظمت أول مظاهرة لنصرة القيم الحضارية في أول عهد الزعيم بورقيبة في 17 يناير 1961 استشهد فيها خمسة مواطنين، ورفض أبناء القيروان آنذاك اضطهاد إمامهم الفاضل رحمة الله عليه الشيخ عبدالرحمن خليف، وأسفرت تلك الهبة المباركة بشهدائها السبعة عن الحد من مبادرات بورقيبة العلمانية المرتجلة مثل إلغاء الصيام والتخلي عن الحجاب. لي مع القيروان ذكريات لا تمحى فقد ولدت في حي الجامع قريبا من جامع عقبة، وكنت أتردد طفلا على دروس الزيتونة كل يوم إثنين يوم إجازة المدرسة، لأتحلق حول أحد شيوخ العلم والأدب أحاول فهم ما يقول وأتعلم اللغة العربية ومعالم حضارتها، وكنت تلميذا في مدرسة الفتح القرآنية التابعة للأوقاف التي كان معلموها ومديرها من الوطنيين الدستوريين، أمثال محمد بودخان أحد مؤسسي الحزب الدستوري والطاهر عطاء الله وغيرهما ممن كانوا يعلموننا بسلوكهم لا بنصائحهم كيف يدافع الرجل عن حياض الوطن، وكان أغلب معلمينا يرتادون السجون صامدين. القيروان كانت تعج (ولا تزال) بأهل الأدب والشعر من جيل آبائنا أمثال الشيخ صالح سويسي كاتب أولى الروايات في الأدب العربي في مطلع القرن وهي (الهيفاء وسراج الليل)، والشعراء محمد الفايز والشاذلي عطاء الله والناصر صدام ومحمد مزهود ومن رواد النقد محمد الحليوي. إننا نهيب بالحكومة أن تعيد الاعتبار لمعالم القيروان الخالدة حتى يكون حاضرها جديرا بماضيها، وينعم ساكنوها على الأقل برؤية فسقية الأغالبة وجامع عقبة محفوظين من عفاء الزمن، وأن تعيد لها المدينة الطبية سالف عهدها العلمي الزاهر بإعانة قطر الرائدة. كاتب تونسي [email protected]