14 سبتمبر 2025
تسجيلسوف يحفظ التاريخ جوهر ما شهده عام 2011 من أحداث كمحطة أساسية في سير الحضارة البشرية و لعل ذاكرة التاريخ لن تحتفظ بالتفاصيل إذ أن جوهر ما حدث و ما يزال يحدث هو عودة مفهوم أو مقولة الأخلاق للفضاء السياسي العام بعد أن نشأت أجيال كاملة على سياسات بلا أخلاق كان أدهى من شرعنها هو الفيلسوف السياسي الإيطالي ماكيافال بجملته الشهيرة : الغاية تبرر الوسيلة.. و هذه الظاهرة الحضارية عالمية وكونية لم تمس العرب فقط بل إن الجماهير التي خرجت في نيويورك و باريس و لندن ومدريد ودربان (جنوب إفريقيا) كانت تهتف: "الشعب يريد إسقاط بريتن وودس" و كذلك "الشعب يريد إحتلال وول ستريت". و هنا لا بد أن ندرك بأن رفض عالم يستبد فيه القوي بالضعيف هو رفض عالمي لا يعرف حدودا جغرافية أو ثقافية أو عرقية أو دينية. فقد علمنا أساتذتنا على مقاعد المدارس الثانوية حين بدأت برامج التعليم تلقننا مبادئ الفلسفة بأن الأخلاق كما فسرها الدين و كما شرحها العلم و كما حللها الأدب هي الضوابط التي يضعها المرء لنفسه أو يضعها المجتمع له حتى تصبح الحياة الإجتماعية ممكنة. فالأخلاق إذن هي نتيجة التنازلات التي يقوم بها الشخص الواحد عن نوازعه و غرائزه طوعا أو بالإكراه حتى يعيش مع غيره من الناس فلا يعتدي عليهم و لا هم يعتدون عليه. فكانت الأخلاق أكبر مكسب إنساني منذ عصره الحجري إلى عصر غزو الفضاء. و بالطبع فإن الإنسان الجهول الظلوم كما نعته القرأن الكريم لم يجعل الأخلاق قيمة عليا بل إن حروب الدين والعنصرية و الإستعمار و الإحتلال دمرت أسس حضارة الإنسان أو كادت. و من هنا جاءت الشرائع و القوانين بالتدريج مع تمدن الإنسان و إنتقاله من البدائية للقبيلة للقرية للمدينة ثم أخيرا للدولة الأمة و اليوم يمكن القول بأن البشرية على أعتاب نظام كوني جديد بدأ مع إعلان المفكر مارشال ماك لوهان بأننا أصبحنا نعيش في قرية عالمية بفضل وسائل الإتصال و سرعة إنتشارها و قوة تأثيرها. و إننا نعلم بأن مرحلة القرية العالمية لسنة 1972 حين صدع بها ماك لوهان تم بسرعة الضوء تجاوزها سنة 2011إلى مرحلة (مابعد الثورة التكنولوجية بوست تكنولوجي) أو مرحلة (التفاعلية الأنية أنستنت أنترأكتيفيتي) و علينا أن نضع هذه الأوضاع الجديدة الطارئة نصب أعيننا و نحن نتأمل ظاهرة عودة الأخلاق تدريجيا للفضاء السياسي العام في شموليتها الكونية لا أن نتحدث عما سمي بالربيع العربي كأنه ظاهرة عربية معزولة. لاحظوا معي أيها القراء الكرام الترابط الزمني و الجدلي بين جماهير عربية تطالب بالحريات و بين جماهير غربية تنادي بوضع حد لإستبداد رأس المال المتوحش من خلال اقتصاد السوق اليبرالي المصارفي. ففي كلا الحالين نقرأ رفضا لإستغلال الإنسان وتهميشه و التضحية به قربانا لنظام إقتصادي و نقدي و بالتالي سياسي فاسد و منقضي الصلوحية وهو نظام بريتن وودس الذي ساد العالم منذ نهاية الحرب العالمية الثانية ومكن الغرب الإمبريالي من تذييل بقية الدول التابعة في العالم الثالث. و هكذا فنحن نفهم أحداث سنة 2011 في حقيقتها الكونية لا في شكلها الإقليمي لأنها في جوهرها توق عارم لدى الأمم جميعا لعودة الأخلاق للفضاء العام. فالغرب يسعى لإحلال الإنسان في منزلة السمو التي يستحقها حتى لا تسحقه مصالح أقلية مستفيدة من استعباده و الشرق يسعى لإعادة اعتبار حقوق الإنسان و احترام خياراته و حرياته. و لكن هذه الظاهرة الكونية تحتاج إلى آليات لحماية الحريات و منعها من أن تصبح فوضى لعل الغرب توصل إليها بفضل رصيده الديمقراطي و دولة القانون التي أسسها منذ زمن طويل لكن الشرق ظل مهددا بانفلات أمني و اقتصادي و سياسي تعيد شعوبه لنقطة الانطلاق حيث لن يحصد من توقه للحريات سوى المزيد من العبودية و تغيير طفيف في ديكور الإستبداد بإعادة إنتاجه في أشكال أخرى مبتكرة. و في حالة غياب الوعي لن تدخل الأخلاق للفضاء العام بل تدخل بدلها فتنة هي أشد من القتل.