26 أكتوبر 2025
تسجيلنعم الإعلامي صاحب رسالة، وهي الإبلاغ بهدف "التنوير" لا أكثر ولا أقل، ولكن إعلاميين كثيرين يحسبون أنهم مكلفون بـ "صياغة الدنيا وتركيب الحياة القادمة"، كما يقول شاعر السودان الكبير محمد المكي إبراهيم، فيمارسون الوصاية على الناس تارة وينهالون عليهم جلداً تارات أكثر، مع أن ما نحن فيه من جهالة ناتج عن قصور في أدواتنا وقنواتنا التربوية - التعليمية والإعلامية، فمدارسنا تنتج أنصاف متعلمين، ووسائل إعلامنا مدجنة تحسن السير على العجين دون أن "تخلبطه" أي تزيده عجناً. استعيد هنا طرفاً من كلام صديق إعلامي عن روجر كورنبيرغ الأستاذ في جامعة ستانفورد الأمريكية، الذي فاز بجائزة نوبل للكيمياء قبل بضعة أعوام، (تحديدا نسخ الخلايا للمعلومات الجينية لكي يستخدمها الجسم) مع الإشارة إلى أن والده سبق أن فاز بجائزة نوبل للطب عام 1959، ثم واصل صديقي ذاك شرح الدرس المستفاد من سيرة الرجلين قائلا: "مما يؤكد أهمية غرس روح البحث العلمي لدى أطفالنا حتى يأتي جيل يوَرِّث العلم ويتوارثه"، ووجدت نفسي أصيح فيه: كيف نورث عيالنا روح البحث العلمي أو حتى حب العلم ونحن أجهل الناس في كل شيء؟، ولكن صاحبنا تجاهل ملاحظتي وواصل مواعظه عن أهمية نشر الوعي والمعرفة، مشيدا مرة أخرى بكورنبيرغ بتاع الطب وابنه بتاع الكيمياء. هنا انتزعت المبادرة من صاحبي وقلت: يا زملاء المهنة لو فيكم خير لكتبتم عني مشيدين بإنجازاتي؛ أنا أعتقد أنني استحق جائزة نوبل في أي شيء وكل شيء، أكثر من روجر كورنبيرغ وأبيه، بدون فخر لم يكن أبي وأمي يحملان حتى شهادة كي جي ون (اسم الدلع للمرحلة الأولى من روضة الأطفال) وليس بين أجدادي من ناحيتي الأب والأم من كان يحمل شهادة إكمال الصف الأول الابتدائي، والتي كان حاملها حتى قبل سبعين سنة لا يقبل بأقل من منصب وزير.. يعني أنا من عائلة عصامية في الأمية، توارثت الجهل أبا عن جد جد جد جد الجد! ومع هذا نلت شهادة جامعية اسمها الإفرنجي يجنن (عند تخرجي في الجامعة زارنا صديق مهنئا وقال لأمي: مبروك جعفر نال البكالوريوس، فكادت ان تصاب بنوبة قلبية لأنها حسبت البكالوريوس مرضاً عقلياً، ولكنها تماسكت واتهمت الصديق بأنه حاسد وغيران، ولهذا يتهم ولدها الذي نال الشهادة الجامعية بأنه مصاب بالبكالوريوس، وربما التبس عليها الأمر لأن الإنسان المعتوه في لغة أهلي النوبيين يقال عنه انه يعاني من "انبلوس"). لا تحسبوا نيلي الشهادة الجامعية إنجازا سهلاً، أن تكون واحداً من بين 800 طالب فقط ينالون فرصة التعليم الجامعي سنوياً (في ذلك الزمان) في بلد قارة كالسودان، فمن الإنصاف أن تكون هناك جائزة نوبل (ولو موبايل) تليق بإنجازك! أن تكمل سنوات المرحلة الابتدائية الأربع، ووجبة إفطارك حفنة من التمر، ثم تخوض تصفيات أولمبية لتفوز بمقعد في المدرسة المتوسطة، وتغادر بيت أهلك وعمرك 12 سنة لتعيش في السكن الملحق بالمدرسة ويكون ذلك السكن عرضة لغزو الضباع ليلا فلا نستطيع التوجه إلى دورات المياه فيضطر بعضنا إلى تفريغ المثانات في السرير، ثم نجتاز مطحنة أخرى لننتقل إلى مدرسة ثانوية تبعد أكثر من ألف كيلومتر عن بيوتنا مقيمين فيها ثم ندخل الجامعة ونتخرج فيها.. هذه تحتاج إلى أوسكار فوق جائزة نوبل. لا... وصرت استخدم الكمبيوتر والهاتف الموبايل أنا الذي لم أر الهاتف العادي بالعين المجردة إلا وعمري نحو 18 سنة.. ثم صرت أقود سيارة بـ "جير" أوتوماتيك.. ولدي تلفزيون ملون بريموت كونترول!، وتعلمت أكل الإسباغيتي بالشوكة، وصرت أشرب الكولا دون أن ينحشر لساني في الزجاجة.. هذا هو يا جماعة الإنجاز الحقيقي الجدير بالإشادة والتقدير. ليس إنجازاً أن تكون مليونيرا لأن والدك مليونير، أو أن تتفوق في دراسة الطب لأن والدك يحمل درجة الدكتوراه في الكيمياء أو الأحياء.. الإنجاز هو أن تكون أول واحد في عائلتك يدخل الجامعة ويتركها غير مطرود بل مزوداً بشهادة ذات اسم رنان (بكالريوس).. الإنجاز هو أن قرويا كان يرعى غنيمات أهله صار يقود السيارة ويقود غوغل غول الإنترنت ويركب الطيارة.. ومعظمكم مثلي، نشأ في بيئة أمية وريفية أو بدوية وأنجزتم الكثير وعليكم أن تشعروا بالفخر (ولكن بدون غرور).. وداهية تأخذ نوبل وجائزته. [email protected]