12 سبتمبر 2025

تسجيل

من لا أول له لا تالِي له

05 سبتمبر 2023

كتبت أكثر من مرة عن ولعي بقنوات الجزيرة الوثائقية وديسكفري وناشونال جيوغرافيك والقنوات الوثائقية الفضائيات عموما، ليس فقط لأنها خالية من الهشك بشك، ولكن لأنها تقدم غذاء للعقل والفكر بما تضخه من مادة علمية موثقة تعرض بطرق شيقة، (مؤخرا صرت من جماهير قناة يوتيوب لأنني اكتشفت أنني استطيع ان اشاهد فقط ما اريده من مواد، متى أشاء). وقبل أيام كنت أشاهد في ديسكفري فيلماً تسجيلياً عن الإسكيمو ذلك الشعب الذي يعيش في مناطق في القطب الشمالي في أكواخ يكسوها الجليد على مدار السنة، وزادهم الوحيد هو ما يصطادونه من حيوانات بحرية، وشاهدت صبياً من الإسكيمو يمسك بندقية ويصوبها نحو عجل بحر ويطخه في رأسه، فكان أن أقامت العائلة وليمة كبيرة لأنها لم تكن قد ذاقت طعاماً حقيقياً يقيها غائلة الجوع والبرد طوال أربعة أيام. ورأيت في أيام أخرى كيف يعاني سكان صحار مثل كلهاري في أفريقيا أو جماعة الأبورجينيز- وهم أهل أستراليا الأصليون الذين ما زالوا يعيشون على صيد السحالي ويأكلون كل شيء: كلاب وضفادع وديدان وتماسيح. وتعود بي الذاكرة إلى سنوات الطفولة حيث لم تكن هناك كهرباء، وكنا نشرب الماء من نفس الجدول المخصص للزراعة، والذي كانت تشرب منه بهائمنا، وكانت الصيحات الثكلى تتعالى كل مساء عندما يلدغ ثعبان أو عقرب شخصاً ما، ولا علاج عندنا لمثل تلك الحالات سوى عصير الليمون المركز (ولليمون مكانة عالية في الشعر الغنائي في السودان ومنطقة الخليج ربما لانعدام الفواكه الأخرى، ولجمال شكله وفوائده الصحية العالية)، ومع هذا كنا نأكل ثلاث وجبات، ونشرب الشاي ثلاث مرات (في الصبح وبعد الغداء وعند المغيب) ولدينا تمر كثير. كانت طفولتي بائسة بمقاييس ذلك «العصر» مقارنة بحال غيري من الأطفال في بلدان أخرى كانت أقل فقراً من بلدي، ولكن كلما شاهدت معاناة سكان الصحاري والأصقاع الجليدية أدرك أنني نعمت بطفولة مرفهة، وأنا أجلس الآن أمام كمبيوتر وأمامي على الحائط تلفزيون طويل وعريض قادر على التقاط قناة يوتيوب حتى في غياب شبكة نت منزلية (واي فاي)، وعلى يميني تلفون آيفون وعلى يساري آيباد ومكيف الهواء يتلاعب بما تبقى من شعر رأسي، ولا تكاد تمر ساعة دون أن أقول في سري: سبحان الله.. كنا فين وبقينا فين.. هل أنا المرتدي الملابس الأفرنجية نفس الـ «جعفر» الذي كان يرعى عنزات العائلة، وياما اضطر إلى مساعدة العديد من العنزات على الولادة. يعني داية/قابلة للغنم، وكنت ماهراً في حلب الماعز. ودعوني أتباهى أمامكم بخصلة حباني الله إياها وهي «الشكر والحمد»، بمعنى أنه لا يغيب عن بالي أنني لم اكن أحلم يوماً ما بأن تكون عندي سيارة خاصة، بل وحتى في مرحلة الشباب كان ركوب التاكسي «بدلا من الباص» حلماً صعب المنال، وقضيت المرحلة الجامعية بثلاثة قمصان وبنطلونين كنت أتولى غسلهما وكيهما بنفسي، وإلى يومنا هذا فإنني «كواء» محترف وكنت إذا اكتشفت في ساعة متأخرة من ذات مساء أن الزي المدرسي لولدي أو بنتي بحاجة للكي، أقوم بلا تردد بتناول المكواة، وأجهز له/ لها الملابس المدرسية في أفضل حال. كافحت وأنا النوبي الأعجمي حتى تعلمت اللغة العربية وكتبت بها قصائد «قمة في الركاكة» ولكن وبالعناد والمثابرة هأنا ذا أكتب مقالاً يومياً بالعربية في صحيفة الشرق المشرقة دائما والتي قدمتني للقراء في مطلع تسعينات القرن الماضي. كنت أفرح في بداية الأمر كلما رأيت اسمي مكتوباً في صحيفة أو كلما استوقفني شخص وسألني إن كنت «أبو الجعافر»، ولكنني لم أترك تلك الأمور «تطلع في رأسي» بأن أذكر نفسي: رحم الله امرأ عرف قدر نفسه. ومن نسي قديمه تاه، واللي ما له أول ما له تالي، وبالتالي لن أنسى «الحمارسيدس» أبو أربعة حوافر، الذي تباهيت بركوبه وانا صبي، بعد أن عشت في عصر المرسيدس ذي الدفع الرباعي.