16 سبتمبر 2025
تسجيلمائة عام تزيد عشرا تكتمل اليوم على وفاة المصلح العربي الشامي صاحب الكتاب ـ الحدث طبائع الاستبداد عبد الرحمن الكواكبي ـ رحمة الله عليه ـ سنة 1902 والأمة العربية بربيعها أنجزت سنة 2012 بعضا من أفكاره النيرة لكنها مهددة بالسقوط في أنواع أخرى من طبائع الاستبداد. مائة وعشرة أعوام كذلك تقريبا على صدور ذلك الأثر العظيم الذي نظر قبل كتب أوروبا لأسباب التخلف وجذور التقهقر وحللها واقترح على المسلمين علاجها. مائة وعشرة أعوام تمر ولا حياة لمن تنادي، لا الحكومات العربية ولا جامعة الدول العربية ولا الجامعات العربية ولا مراكز البحوث الإستراتيجية اغتنمت هذه الذكرى لإحياء هذا التراث العربي المتميز وقول كلمة حق في ذلك الرجل الأمين الذي دفع حياته ثمنا لقول الحق.. لا شيء كما قال عبد الرحمن الكواكبي نفسه في توطئة كتابه: (وهي كلمات حق وصيحة في واد، أن ذهبت اليوم مع الريح، فقد تذهب غدا بالأوتاد..). إن مجتمعات العالم كلها تحتفي بذكريات رجال أقل شأنا من الكواكبي وأقل تأثيرا بل إن مجتمعات أوروبا وأمريكا واليابان والصين تقتنص كل ذكرى لإحياء أمجادها بحق أو بباطل.. ونحن العرب غافلون كأنما فقدنا ثقتنا في أمجادنا وكنوز ماضينا البعيد والقريب وقطعنا الصلة مع ذلك الفيض الرائع من الفكر الحر وأصبحنا أيتام حضارة بإرادتنا! ولد عبد الرحمن الكواكبي عام 1854 لأسرة عربية كريمة في مدينة حلب الشامية التي تقصف اليوم بالطائرات والدبابات وتلقى علومه في المدرسة الكواكبية وعمل في الصحافة والمحاماة كما تقلد بعض المناصب الوظيفية وبدأ يجلب لنفسه السجون والاضطهاد ومصادرة المال والدار عندما كتب عن الاستبداد في الصحف. هاجر من حلب سنة 1900 وطاف الجزيرة العربية وشرقي إفريقيا والهند وأقصى الشرق ثم استقر في مصر، وفيها كتب (طبائع الاستبداد) كما كتب (أم القرى) وتوفي بالقاهرة عام 1902 ضحية سم دُس له في فنجان قهوة.. معيدا قصة أرسطو فيلسوف الإغريق وضحية الدفاع عن الحرية هو أيضا. من الغريب ـ بل من العار على العرب ومؤسساتهم الثقافية ـ أن صدور الكتاب وطبعاته المتلاحقة كانت دائما بسعي نجله أسعد الكواكبي في الثلاثينيات ثم بسعي حفيده د.عبد الرحمن الكواكبي في السبعينيات واليوم بجهد الزميل د. سلام كواكبي وكانت تنفد حال نزولها للسوق وعنيت الجامعات الأوروبية والأمريكية بالكتاب وأدرجته في برامج دراساتها السياسية والاجتماعية كأحد أبرز آثار الفكر العربي الإصلاحي بل تتلمذت على الكواكبي ثلة من منظري علم الاجتماع السياسي في الغرب وأبرزهم الأستاذة (هانا ارندت) صاحبة كتاب الاستبداد الذي أصبح المرجع الأساسي للعلوم السياسية وهو المؤلف بعد ثمانين عاما من كتاب الكواكبي الذي تجاهلته المؤسسات الرسمية العربية للأسباب التي نعرفها جميعا ولم يعد بالإمكان إخفاؤها بعد الربيع. وإن تأملنا في عصر الكواكبي وجدناه عصر نهضة عربية مباركة بحيث لم يأت كتاب طبائع الاستبداد من فراغ بل كأنما هو حلقة ضرورية إلى جانب حلقات نهضوية تشكل سلسلة تمهيد لانطلاقة عربية شاملة فقد صدر عام 1901 كتاب الشيخ محمد عبده (الإسلام والنصرانية مع العلم والمدنية) وكتابه (الإسلام والرد على منتقديه) وأصدر مصطفى كامل صحيفة اللواء وفي المغرب العربي بدأت حركة علي باش جانبه الإصلاحية تنشط ضد الاستعمار كما كتب قاسم أمين كتابه (المرأة الجديدة).. كان ذلك المناخ الفكري كالتربة الصالحة لبذرة الكواكبي.. وهي البذرة الوحيدة التي لم تتحول إلى سنبلة طيلة القرن.. لأن حركات الإصلاح تمكنت من طرد الاستعمار والإبقاء على جذوة الإسلام السليم حية لكنها فشلت فشلا ذريعا في تطوير الفكر الشوروي ـ أي الديمقراطي ـ في بلاد العرب جميعا مما تسبب في نكبات وكوارث عربية قديمة وحديثة لانزال نحمل أوزارها إلى اليوم فغياب الديمقراطية هو الذي أدى على الأقل إلى الهزيمة العربية يوم 5 يونيو 1967 وتوسع الاحتلال الإسرائيلي ثم احتلال الكويت ثم حروب الخليج وفتنة 11 سبتمبر 2001 ثم انتشار أنظمة الأسر "الجمهورية" والقمع الممنهج الذي أدى إلى انتفاضات عربية لم تنضج بعد. يقول حفيده. د. عبد الرحمن الكواكبي: "إنه الاستبداد الذي يظل يرافق الحياة كلها بوجه عام والحكم بوجه خاص، على تباين أثره وتفاوت شره، فهو يشتد أو يضعف، وبقدر ما يخبو الوعي السياسي أو ينمو، وبقدر ما يمحى التخلف أو يزداد، وبقدر ما يصفو الفكر أو يتعكر، وبقدر ما تظهر النزعات الوجدانية والمراحم الإنسانية ومكارم الأخلاق أو تضمر". لهذه الأسباب سيظل الكتاب أثرا خالدا فريدا في صنفه، نوعا من أنواع إيقاظ الموتى من رقدة العدم ويكفي أن تلقي نظرة على فهرست الكتاب لتعلم أيها القارئ العربي أن الكواكبي أنار بشعلته الوقادة كافة جوانب الاستبداد وعلاقته بحياتنا فنجد الفهرست كما يلي: ما هو الاستبداد؟ والاستبداد والدين الذي أوضح فيه أصول الإسلام وبعدها عن الطاغوت، وكذلك الاستبداد والعلم لينفذ نظريات فطرة الناس على قبول الاستعباد، وأيضا الاستبداد والمجد لزرع الثقة في نفوسنا حتى لا يستبد علينا أحد. ثم يتطرق المؤلف إلى موضوع العلاقة بين الاستبداد والمال، فيكون الكواكبي سباقا لعصرنا الراهن، مستطلعا آفاق ارتباط الاستبداد كسلوك سياسي وثقافي بالمال كعصب محرك للمجتمعات وبعد ذلك يحلل الكواكبي محور الاستبداد والأخلاق من منظور فلسفي عميق قل أن يدركه عالم متخصص ثم يحلل علاقة الاستبداد بالتربية، فالتربية لديه هي خميرة المجتمع وأساسه وعليها مسؤولية تخريج جيل رافض للاستبداد. ثم هو في فصل الاستبداد والترقي وبعده في فصل الاستبداد والتخلص منه يقدم وصفة الحكيم المتمرس الأمين لتحقيق نهضة عربية وإسلامية ديمقراطية تعتمد احترام رأي الأغلبية والحكم بفضائل الأخلاق وتجسيد المحاسبة والمراجعة والعزل كأدوات لمراقبة الحاكم حتى لا يستبد وقد ختم الرجل كتابه بحكمة لا بد أن نوردها: (إن الله جلت حكمته قد جعل الأمم مسؤولة عن أعمال من يحكمه عليها وهذا حق فإذا لم تحسن أمة سياسة نفسها أذلها الله لأمة أخرى تحكمها كما تفعل الشرائع بإقامة القيم على القاصر أو السفيه وهذه حكمة ومتى بلغت أمة رشدها وعرفت للحرية قدرها استرجعت عزها وهذا عدل). فكيف نعذر العرب على نسيان هذا الرجل وكتابه ونحن لم نجب بعد قرن ونيف على الأسئلة التي طرحها الكواكبي منذ قرن؟ وظللنا نعاني نفس العلل بدرجات متفاوتة.. إلى يوم الناس هذا.