15 سبتمبر 2025

تسجيل

العودة القوية للباب العالي

28 سبتمبر 2011

استحوذت رحلة رجب طيب أردوغان إلى مصر وتونس وليبيا ولقاؤه مع أبو مازن في القاهرة على أضواء التحليل والتعليق بعد أن زار الرجل بشجاعة أرض الصومال وتعاطف مع شعبها الجائع والمريض واحتضن أطفالها المحرومين حتى من الماء والدواء وكسرة العيش. رجب طيب أردوغان هو النجم الصاعد وهو الأمل الواعد بالنسبة لأكثر من سبعين في المائة من الشباب العربي حسب تقديرات استطلاعات رأي جدية هذه الأيام وليس هناك سر محير في الأمر لأن شباب العرب كشباب أمم الدنيا يحتاج إلى منارات تهديه في غياهب الدجى الراهن ويبحث بالفطرة عن زعماء أمناء يعبرون عن طموحاته المشروعة ويحققون أحلامه المجهضة ويرسمون له خرائط الطريق. كان ذلك حال الشباب الإفريقي حين وجد في المناضل الكبير نيلسن مانديلا ضالته لأنه حرر بلاده بل وقارته من الميز العنصري، كما كان ذلك حال الشباب الهندي في الأربعينيات حين جسد المهاتما غاندي عبقرية الأمة الهندية وأيضا شباب باكستان حين تولى محمد علي جناح قيادة إنشاء الدولة الباكستانية المسلمة. أما في العالم العربي فالتاريخ الحديث يؤكد لنا بأن الزعامات المتألقة التي حررت شعوبها انتهت في معظمها إلى دكتاتوريات عاتية بسبب التشبث العربي بالكرسي إلى مالا نهاية والتخطيط عادة للتوريث. فخاب أمل الشباب العربي في "الجملكيات" العربية التي تحولت إلى " مخابريات " عربية. وهنا جاء رجل عصامي تركي تخرج من تحت عباءة أستاذه طيب الذكر نجم الدين أربكان وأدرك حين ترأس بلدية اسطمبول بأن طاقة الحضارة الإسلامية يمكن أن تعبئ شعبا وتجند شبابا دون الوقوع في فخ التطرف والمغالاة ولا ننسى بأن أربكان هو الذي كان يقول: " إن الإسلام حضارة وليس مجرد دين وقيمه الخالدة هي التي تشكل دينامو السياسات حتى العلمانية منها" وهو القائل كذلك: " أفضل أن تكون تركيا هي الأولى في دار الإسلام على أن تكون الأخيرة في الاتحاد الأوروبي". وقد سعى رجب طيب أردوغان إلى تجسيد حي وعملي وموضوعي لهذه الشعارات. فالحكومة التركية المنبثقة عن قيم الإسلام الحنيف برئاسته أيقنت بأن دول الاتحاد الأوروبي لن تقبل بعضوية تركيا في اتحادها لأسباب عنصرية ودينية دفينة لا تفصح عنها لكنها تطبقها رضوخا لرداءة اليمين المعادي للمسلمين. وبدأ أردوغان مسيرة استقلال القرار التركي عن الإملاءات (أو لنقل الشروط) الأمريكية وعامل إسرائيل الغاشمة بما يتناسب مع بطشها الأرعن، وتقرب من محيط تركيا الجغرافي والحضاري بدبلوماسية أحمد داود أوغلو لينشأ فضاء التعاون الاقتصادي مع كل من إيران وسوريا وأقام علاقات قوية مع جناحي فلسطين: فتح وحماس. وها هو اليوم يدشن عصرا ذهبيا من التحالف الإستراتيجي مع عرب ما بعد الثورات ويؤسس للباب العالي الجديد من دون هيمنة السلطان العثماني ولا ادعاء التفرد بالقرار المركزي. ثم إن أردوغان داخليا وفي عقر دار تركيا يتربع على عرش مؤقت ومريح فقد أوصل بلاده إلى رتبة القوة الاقتصادية الخامسة عشرة في العالم والخامسة أوروبيا وحقق نسبة نمو سنوية لم يعرفها العالم إلا في الصين وأرسى قواعد ديمقراطية حقيقية تبدأ من انتخاب لجنة الحي إلى البلدية إلى مجلس النواب إلى رئيس الجمهورية. وتجرأ من جهة ثانية على أركان الجمهورية التركية ودستورها فحد لأول مرة في تاريخ تركيا من تدخل قيادة أركان العسكر في شؤون الدولة وطالب بمراجعة الدستور الحامي للعلمانية. مما أعطى الحكومة حرية الالتفات إلى السياسة الخارجية لكي تعدل مسارها وتصحح خياراتها وبالتالي تقود إقليم الشرق الأوسط إلى فضاء سلام أعدل وأبقى وأرسخ. وهكذا فإن الباب العالي الجديد يعرض على العرب نموذجا حضاريا وليس سياسيا فحسب لأنه ينبه النخب العربية إلى أن علمانية الدولة لا يعني "كفرها" وأن قيم الإسلام لا تتناقض مع قيم الديمقراطية وحقوق الإنسان وأن الحكومات إذا ما كانت منبثقة من إرادة شعوبها تصبح أقوى وأن أخطر عدو لاستقرار الدول وأمنها يكمن في التشبث الأبدي بالحكم. فليعتبر أولو الأبصار.