13 سبتمبر 2025

تسجيل

الأوتار المتراقصة

28 أغسطس 2015

خرير مياه الينابيع، هدير أمواج البحر، حفيف أوراق الشجر، زقزقة العصافير، هديل الحمام وأصوات النوارس وهي تحلق فوق البحر، كلها موسيقى تشدو بها الطبيعة وتترنم، صانعة سيمفونية رائعة بلا مؤلف أومايسترو، استلهمها منها الإنسان ليخترع موسيقاه الخاصة، الموسيقى نشوة الأوتار المتراقصة وفرحة الانعتاق من أسر المكان والزمان، لتحلق الروح في آفاق رحبة غير مطروقة. وكما تقول الروائية لطفية الدليمي (من لا ينصت للموسيقى لا يعرف غبطة الفردوس الروحي ومعنى انتصار الفن على الحزن والألم ومقاومة الفناء و إمكانية تحقيق التوازن والعدالة، تدفعنا الموسيقى للتحرر من المحددات الأرضية ونستجيب معها إلى نداءات الكون القصية ونصغي إلى همهمة الروح وهي تنعتق من ثقل الجسد لحظة اكتشاف الذات لحقيقتها وكأنها انعكاس في المرايا). والموسيقى أو ميوزيك الكلمة التي دخلت معظم اللغات العالمية اشتقت من اسم عرائس الإلهام (الميوزات) التي تسمى إحداهن (ميوز) وهن خادمات أبولو إله الشمس والرماية و الموسيقى والشعر والفنون في الميثولوجيا الإغريقية، الموسيقى وسيلة الإنسان للتعبير عن مشاعره وحاجاته وآماله وآلامه، وهي لغة مشتركة يفهمها جميع البشر، وهي ليست لغة منطوقة فقط وإنما منغمة أيضاً. وفي هذا يقول الحكماء إن الموسيقى نشأت من التوازن، ونشأ التوازن من العدالة فحيث لا تكون هناك عدالة لا يوجد توازن، وبالتالي تختفي الموسيقى، ولكل شعب موسيقاه وأدواته الخاصة فحتى الشعوب التي توصف بالبدائية لديها موسيقاها المميزة، وقد استعمل الإنسان البدائي الأدوات التي وجدها جاهزة في الطبيعة ومن ثم قام بتشذيبها وتصنيعها. فمن العظام إلى أعواد الخشب إلى نبات القرع المجفف إلى جذوع الأشجار الفارغة، التي صنع منها الطبول حيث شد عليها جلود الحيوانات، كل هذه الآلات، إضافة إلى حركات الجسم التي شكلت لدى الإنسان لغة يعبر فيها عن سعادته ومشاعره المتباينة وعن اتصاله بمن حوله كانت البدايات الأولى للفن. وكما يقول ول ديورانت في كتابه (قصة الحضارة) في تحليله ورؤيته لبدايات الفنون ( أن العزف الموسيقي على الآلات نشأ عن رغبة الإنسان في توقيع الرقص توقيعاً له فواصل تحدده وتصاحبه أصوات، وكانت آلات العزف محدودة المدى والأداء، صنعها من قرون الحيوانات وجلودها وأصدافها وعاجها، ومن النحاس والخيزران والخشب. ثم زخرف الإنسان هذه الآلات بالألوان والنقوش الدقيقة. ونشأ بين القبائل منشدون محترفون كما نشأ بينهم الراقصون المحترفون. ومن الموسيقى والرقص الهمجي نشأت المسرحيات والأوبرا، ذلك لأن الرقص البدائي كان يحاكي حركات الحيوان والإنسان، ثم انتقل إلى أداء يحاكي به الأفعال والحوادث، فبغير هؤلاء الهمج وما أنفقوه في مائة ألف عام في التجريب لما كتب للمدنيّة النهوض). الموسيقى جزء حي ونابض من حياة الشعوب، وهي بوصلة دقيقة لمعرفة اتجاه المجتمع وحالته النفسية والأطوار الاجتماعية التي يمر بها، ففي فترات الهزائم الكبرى والحروب عادة ما تتهاوى الموسيقى إلى مرتبة دنيا وغالباً ما تترافق مع الكلمات التي تخاطب الغرائز، حيث تسود الموسيقى الراقصة المعتمدة على الآلات الإيقاعية مثل الطبول بأنواعها والتي لا يتطلب العزف عليها مهارة كبيرة على خلاف الآلات الوترية. وكما يقول حكيم صيني ( موسيقى العصر المضطرب موسيقى صاخبة هائجة، وموسيقى الدولة المنحلة تكون عاطفية حزينة وهذا يعني أن الدولة في خطر)، ويخبرنا (هيرمان هيسه) في روايته الجميلة ( لعبة الكريات الزجاجية ) أن الموسيقى كانت في الصين القديمة، تلعب دورا قياديا في حياة الدولة والبلاط وكان الناس هناك يقرنون بين ازدهار الموسيقى وازدهار الثقافة والأخلاق بل وازدهار الدولة بكاملها، وكان يتوجب حينها على أساطين الموسيقى أن يسهروا للمحافظة على الأنغام القديمة والإبقاء على نقائها، فإذا تدهورت الموسيقى فإنها علامة أكيدة على تدهور الحكومة والدولة. وقد تحدث الفلاسفة وعلماء الرياضيات الكبار كالفارابي وابن سينا والرازي عن الأثر السحري للموسيقى في النفوس و قدرتها الخلاقة على إحداث تغييرات في الدماغ البشري والجسد، وقد أوصى ابن سينا بالاستماع إلى الموسيقى لأنها تسكن الأوجاع وتريح النفس، فقد ذكر أن مسكنات الأوجاع ثلاث: المشي الطويل، الموسيقى والغناء الطيب، والانشغال بما يُفرح الإنسان. الحياة عندما تخلو من الفن والموسيقى تتحول إلى صحراء جدباء لا نبت فيها ولا حياة أو على حد تعبير نيتشه (الحياة بدون موسيقى خطأ فادح) .