29 أكتوبر 2025

تسجيل

رابعة التركية

28 يوليو 2016

ربما لقي الرئيس رجب طيب أردوغان نفس مصير الرئيس المصري المعزول محمد مرسي الذي أطاح به وزير دفاعه عبدالفتاح السيسي في 3 يوليو 2013 وأودعه السجن وسحقت الدبابات والجرافات المصريين الذين اعتصموا في ميدان رابعة العدوية وسط القاهرة أو ربما فصلت ساعات بينه وبين مصير رئيس الوزراء التركي السابق عدنان مندريس الذي أعدم شنقا بعد انقلاب عام 1960، لولا مكالمة مصورة عبر هاتف ذكي جرحت كبرياء الشعب التركي وهو يرى رئيسه يستغيث بالإرادة الشعبية، فلم تمر سوى لحظات حتى اعتقل الشعب كل الدبابات وأفشل خطط الانقلابيين في السيطرة على الحكم بالقوة العسكرية ومصادرة القيم الديمقراطية والمدنية التي تشربتها الجماهير، عندها ردد أردوغان في أول ظهور له أمام الجماهير عبارة رابعة التي طالما عبرت عن موقفه الرافض لانقلاب العسكر في مصر، لكن هذه المرة كانت رابعة تركية ذات المعاني والدلالات الإستراتيجية في تفكير القائد، حيث أصر على شرح معنى كل أصبع يرفعها لتشكل الأصابع الأربع شعارا لمرحلة جديدة في حياة الأتراك، فرابعة التركية تعني أولًا الأمة الواحدة، وثانيًا العلم الواحد، وثالثًا الوطن الواحد، ورابعًا الدولة الواحدة. وفي كل وقفة يقفها أردوغان أمام الجماهير التي دافعت عن القيم الحضارية لا ينسى التأكيد على معاني رابعة التركية حيث يقول: "إن تركيا بلد واحد بشركسها وكردها وألبانييها ورومانييها، وعلم واحد لونه دماء شهدائنا والنجمة رمز استقلاليتنا، والوطن واحد مساحته 780 ألف كيلومتر، والدولة واحدة ولا يمكن القبول داخلها بوجود دولة عميقة أو كيان موازي" في إشارة إلى جماعة فتح الله جولن. السؤال الذي يراود الكثير من المتابعين لما يجري في تركيا، لماذا وقف الشعب بكل تناقضاته ضد الانقلاب؟ لماذا تصدت المعارضة السياسية من أقصى اليمن إلى أقصى اليسار لطموحات العسكر والكيان الموازي؟ لماذا تحول أردوغان إلى زعيم حتى عند الذين بينهم وبينه ما صنع الحداد؟ ولماذا التف كل الأتراك حول علم بلادهم ولم يرفعوا راية ولا صورة لرئيس حزب أو زعيم؟ وهناك سؤال آخر أثار استغراب واستهجان كل المؤمنين بوصايا الغرب الخمس أو العشر أو حتى المائة، وهو كيف تجاوزت بعض الدول المتقدمة القيم الديمقراطية التي طالما صدعت رؤوس الناس بها لتتوارى وراء مواقف خجولة بل مخجلة لا تدين صراحة التغيير العنيف والانقلاب الفاشل في تركيا لكن عندما تعلق الأمر بالإجراءات الوقائية التي اتخذتها الحكومة بعد ذلك انبرت كل الدول الغربية للتعبير صراحة عن رفضها لتلك الإجراءات وطالبت باحترام القانون والحريات المدنية وحقوق الإنسان؟صحيح أن الرئيس أردوغان يتمتع بحكنة القائد ودهاء السياسي لكن النقطة الرئيسية التي دفعت أغلبية الشعب لتلبية ندائه هي ابتعاد حزب العدالة والتنمية وكل قياداته العليا والوسطى عن الشعارات الزائفة والوعود الكاذبة فلا يمكن لأي تركي أن ينكر المنجزات التنموية والاستقرار والرخاء الاقتصادي الذي تحقق خلال أكثر من عقد، لذلك فإن العلاقة التي نسجت بين الحكومة والجماهير هي علاقة المنفعة العامة والمصلحة الاقتصادية وسيادة حكم القانون، فلم يكن من السهل التفريط في هذه المكاسب وتأييد مجموعات عسكرية ومدنية مجهولة متهورة تريد تخريب ومصادرة الإرث التنموي والديمقراطي، ولم يكن من السهل أيضا أن تتجاوز هذه الجماهير وعيها وكبريائها لتتحول إلى صفوف الشعوب الغافلة الذلول التي تمطي للطاغية ظهرها فيركب وتمد له أعناقها فيجر وتحني له رؤوسها فيستعلي، وتتنازل عن حقها في العزة فيطغى.المشهد التركي بكل تجلياته السياسية والجماهيرية والتنموية جدير بأن يتمعن فيه القادة العرب والنخب السياسية والثقافية ويدرس للأجيال، فالديمقراطية ليست الكفاح من أجل شخص وليست أيضا ديمقراطية الانتخاب الشكلي بل نظام متكامل هدفه التوزيع العادل للسلطة والثورة، وعندما تترسخ قيم هذا النظام كثقافة وسلوك نرى شعبا يحمي قائده من الدبابة ومعارضة ترفض الفوضى لتبقى اللعبة التي تسمح لها يوما أن تكون اللاعب والحكم وهذا هو سر التأييد الواسع لعراب فلسفة رابعة التركية.