15 سبتمبر 2025
تسجيليغدق الله تعالى على خلقه، مسلمهم وكافرهم، طائعهم وعاصيهم، برهم وفاجرهم، بنعمه وعطاياه الكثيرة، قال تعالى: (وما كان عطاء ربك محظورا)، فالله يعطي الدنيا من يحب ومن لا يحب، ولا يعطي الدين إلا من يحب، ما إذا أردنا حمدها وشكرها بألسنتنا وجوارحنا، لعجزنا وما أدينا حقها كما يجب، ولو أنفقنا مدة أعمارنا كلها، ولكن حال الإنسان مع كل أسف، كما وصفه الله تعالى: (وقليل من عبادي الشكور)، فلك الحمد ربنا حمداً يليق بجسيم آلائك ولك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك. ومن هذه النعم والعطايا، عطية الصبر، وقد يعجب القارئ هنا ويسأل، هل الصبر يعد نعمة معطاة من الله؟ إن نبينا عليه الصلاة والسلام اعتبر الصبر من أخير وأوسع العطاءات، إذ قال: (ما أعطيَ أحدٌ عطاءً خيرا وأوسع من الصبر)، ولو تأملنا ملياً في هذا الحديث الشريف، لعرفنا حكمة مغزاه، فأنت حين تصبر أو تتصبر، أي تتكلف الصبر طبعاً، وهو ليس سجية فيك، وقد قال النبي في نفس هذا الحديث: (ومن يتصبر يصبره الله)، ستجد في نفسك غناً عما ليس عندك، وسلوة عن كل ما لم تنل، وعوناً على ما تعسر وعزاء عما تفقد، هذا هو خيره، أما سعته، فمن جانبين، أحدهما حبسك على المكاره، التي حُفت بها الجنة، كما جاء في الأثر، وهي كل ما لا تنشط له النفس، وترى فيه مشقة وكلفة من مختلف العبادات والطاعات، والثاني حبسك ومنعك عما حرم الله عليك ونهاك عنه، فلا تقع في الذنوب والسيئات، والرذائل والمحرمات، وهذا هو معنى الصبر لغة، وأقول اصطلاحاً أيضاً (حبس النفس). بيد أن في الصبر عنتا وعناء على النفس، يحتاج إلى مجاهدتها وزجرها وإلزامها الحبس، فهو كالصبِر – بكسر الباء ولا تسكّن إلا للضرورة الشعرية - أي الدواء المر ومنه أخذ لفظ الصبر، قال الشاعر: الصبر كالصبر مر في مذاقته لكن عواقبه أحلى من العسل. ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام: (الصبر ضياء)، ولم يقل: نور؛ لأن النور ضوء لا حرارة فيه ولا إحراق، والضياء فيه حرارة وإحراق مع صفة الإضاءة، وذلك هو سر التعبير الدقيق في قوله تعالى: (هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نوراً). لأمير الشعراء أحمد شوقي بيت في الصبر، أرى فيه فلسفة إسلامية سامية، وحكمة في غاية الجمال، قال رحمه الله: فاصبر على نُعْمى الحياة وبؤسها نعمى الحياة وبؤسها سيان. وقد انتقد العقاد هذا البيت والقصيدة التي ضمته، واصفاً إياه بفساد المعنى وزعم أن الصبر على بؤس الحياة معروف، فما هو الصبر على نعماها؟! وغاب عنه، رحمه الله، المعنى العميق في البيت، وأخذ ظاهره فحسب، فالصبر على النعم يكون بأداء حق شكرها للمنعم، وعدم استعمالها فيما يسخطه، هذا معنى، ويحتمل البيت معنى آخر، هو الصبر عند زوالها إن قدر الله ذلك ابتلاءً، وهذا كله من قول الله تعالى: (ونبلوكم بالشر والخير فتنة وإلينا ترجعون)، فسمى كلاً من الشر والخير ابتلاء، بهما تقع الفتنة للخلق. ما أكثر فضائلك وما أجلها أيها الصبر!! بك تلقى الجنة قال تعالى: (وما يلقاها إلا الذين صبروا). بك يرتقى إلى المجد.. قال الشاعر: لا تحسب المجد تمراً أنت آكله لن تبلغ المجد حتى تلعق الصبرا (والصبرا) هنا بكسر الباء، وقلنا آنفاً الجامع بين الصبر والصبِر، وأنهما يرجعان إلى معنى واحد. أنت سبب في محبة الله.. قال سبحانه: (والله يحب الصابرين). الثواب عليك يعطى بغير حساب، قال تعالى: (إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب). قال عنك العلماء إنك نصف الإيمان، ونصفه الآخر الشكر. يكفي أنك لزيم النصر وصنوه، قال النبي: (اعلم أن النصر مع الصبر). قال الشاعر: وقل من جد في أمر تطلبه واستصحب الصبر إلا فاز بالظفر. وها هو عمر بن الخطاب رضي الله عنه يلفت عنايتنا، ناصحا وموجها بقوله الذي نحن أحوج ما نكون إليه في زمننا هذا: (إنا وجدنا خير عيشنا بالصبر).