10 سبتمبر 2025
تسجيلاستعرضنا سابقا كيف عملت الرأسمالية على تغييب الدين في السياسة والمجتمع منذ تدشين النظام العالمي القائم حاليا وحتى إشعار آخر والذي سميته " نظام ويستفاليا". كما تناولنا كيف تم ذلك بالتلاعب بالمسميات والشعارات مثل الليبرالية والديمقراطية وغيرها. هذا النظام وهو يتجه إلى تغيير جلده والخروج علينا بمظهر جديد، يبدو الآن في عملية سير عكسي على مساره منذ 1648، بنقض أشياء مثل "الدولة"، مع التمسك بهدم الدين. كيف؟الناظر بعمق في مسيرة الحركة الفكرية في أوروبا يرى أن عملية تغييب الدين بدأت مبكرا لكنها تسارعت مع الترتيب لعقد سلام ويستفاليا، ومع خمود شعلة الإسلام في الأندلس قبل انطفائها تماما في 1942. كان ذلك بظهور انشقاقات دينية في أوروبا قادها مارتن لوثر بداية من عام 1517، ثم تلميذه جون كالفن، استهدفت زعزعة هيبة الكنيسة وهدم سطوتها. لذلك كان من بين أهم نتائج "سلام ويستفاليا"، الاعتراف بالمذهبين البروتستانتي والكالفيني إلى جانب الكاثوليكية، ما أدى إلى تقليص دور البابا وتراجع مكانة الكنيسة. فقد أرسى لوثر وكالفن القاعدة للتمرد على الدين وعلى الكنيسة وبعدها بدأ تهافت ما تم تسميتهم بالفلاسفة واحدا بعد آخر، بنظريات متتالية عن الإله والإنسان والعقل والخير والشر، وهكذا، زاعمين أن البشرية لم تجد إجابات لهذه المسائل، في تجاهل تام للوحي الإلهي، وكأنهم يعيدون اختراع العجلة. والذي لم ينتبه له كثيرون أن معظم هؤلاء، إن لم يكن جميعهم، كانوا في الحقيقة يسعون لصياغة دين جديد للبشرية، بداية من كانط وتلميذه هيجل ثم تلميذه ماركس. حتى يخيل للمرء أن إنتاج النظريات الفلسفية والسياسية والاقتصادية، بات مثل طبع العملة بلا رصيد حقيقي. ويلخص ذلك الأكاديمي المصري غيضان السيد في كتابه "فلسفة الدين" بقوله إن تلك الحركة "الفكرية" خلصت إلى أن الإنسان يمكنه الاستغناء عن الدين. كما رأي باحثون منهم فراس السواح أن فلاسفة ما بعد عصر التنوير نظروا للدين على أنه مرحله وانتهت. وأخيرا رأى مجموعة من الباحثين الأمريكيين منهم، بيتر بوغوسيان وهيلين بلوكروز، وجيمس ليندسي أن من يسمون بفلاسفة القرن العشرين عملوا فعليا، خطوة خطوة، على صياغة دين جديد للبشرية بالمزج بين الشيوعية والرأسمالية، ما يعد سيرا عكسيا للرأسمالية على طريق "سلام ويستفاليا" باستيعابها للفكرة الشيوعية التي حاربتها لعقود. في ضوء ذلك ينتفي العجب، في زمن العولمة، أن يطلق على بعض علماء السياسة الحاليين وصف "أنبياء العولمة" وأن نجد منهم من يبشر صراحة بنظم حياة مخالفة لكل مبادئ الأديان التقليدية والأعراف الإنسانية. من هؤلاء عالم سياسة يدعى أنتوني جدينز، هو المنظر الرئيسي لحكم توني بلير، ومؤسس ما سمي بالطريق الثالث، إذ خرج بأفكار شيطانية تدعو لإقرار شكل جديد للعلاقات بين البشر وأن الأسرة يمكن تكوينها برجلين أو امرأتين وليس بالضرورة برجل وامرأة. ومنذ ظهور كتابه "عالم منفلت" عام 2000، انفجرت فكرة الشذوذ وخاصة في العالم الغربي. كما ينتفي العجب أن يصر "أنبياء العولمة" على عدم الاعتراف بأي دور حقيقي للإسلام في مسيرة الحضارة الإنسانية. لكن يبقى العجب من أن أغلبية كبيرة ممن تناولوا الفلسفة من المفكرين المسلمين أعطوها حجما من التقدير لا تستحقه فساهموا في غياب الوعي العربي بأهمية ما لديه من فكر مرجعي ووحي إلهي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. ذلك رغم أن عالما فذا في تاريخنا هو أبو حامد الغزالي فصل في هذا الموضوع من قديم وأعلن تهافت وتفاهة الفلسفة والفلاسفة. هذه المسيرة أدت بالفكر الغربي للعمل على تغيير خلق الله بمحاولة التحكم في عقول البشر ببرامج مثل "إم كيه الترا"، واختراع كائن وسيط بين الإنسان والروبوت يسمونه "سايبورج" عن طريق ربط مخ الإنسان بالكمبيوتر، ببرنامج "نيورالينك"، بل واستبدال أجزاء صناعية مثل الأطراف بأجزاء حقيقية من جسده. وتسير معها بالتوازي تكنولوجيا "انترنت الأشياء" التي تسعى إلى "تشييئ" الإنسان والتحكم في البشر ومراقبتهم من خلال الإنترنت بجعل كل أمور الإنسان مرتبطة بالشبكة، لخلق عالم يتخطى حدود الدول ولا يعود للإنسان فيه وضعيته القديمة التي يترتب له عليها حقوق دينية واجتماعية. وللحديث صلة.