13 سبتمبر 2025
تسجيللست في موضع الدفاع عن الإمام الأكبر الدكتور أحمد محمد الطيب شيخ الجامع الأزهر لكني في معرض الإِشارة إلى جملة من الحقائق سعيا لكشف عورات المشاركين في هذه الحملة الموجهة ضد فضيلته والتي يبدو في ظاهرها الحرص على مصلحة الأزهر بينما باطنها محمل بروائح خبيثة تنبئ عن كراهية لعالم جليل جاء إلى صدارة مشيخة الأزهر مستندا إلى رصيد من العلم والفكر والثقافة فضلا عن النزاهة والاستنارة والرؤية الثاقبة لدور المؤسسة الدينية وامتلاك القدرة من حجة وبراهين وأدلة على مواجهة أصحاب فكر أسهم في إغلاق نوافذ الضوء التي يتعين أن يطل منها الإسلام: الدين والشريعة ونمط الحياة وطبيعة العلاقة مع الآخر على الواقع. أولى هذه الحقائق أن العالم الجليل لم يأت إلى مشيخة الأزهر ساعيا ومهرولا ومقدما قرابين الطاعة للسلطة أو رجالها، وإنما استند إلى تاريخ طويل في مؤسسة الأزهر سواء عبر معاهدها التعليمية أو جامعتها حتى وصل إلى موقع العميد لعدد من كلياتها مارا بمراحل التصعيد المختلفة ليصل إلى درجة الأستاذ، غير مكتف بحصوله على الأطروحات العادية من ماجستير ودكتوراه وإنما سعى للالتحاق بجامعة السربون الفرنسية والإجادة التامة لكل من اللغتين الإنجليزية والفرنسية، حتى يتمكن من امتلاك أدوات العصر وعبر كل هذه المراحل أثبت قدرة هائلة على التفاعل مع جوهر رسالة الإسلام بحسبانها رسالة تنهض على الاستنارة والوسطية والاعتدال، بعيدا عن الشطط سواء في الطقوس أو في فهم محددات الواقع وقدم بذلك الإسلام المنحاز للبسطاء وليس الإسلام المنحاز لأصحاب الياقات البيضاء أو بالتعبير الحديث النخب. ثانيا: إن الذين يحاولون أن يطعنوا في الذمة المالية للإمام الجليل يقعون ضحية نفر وربما دوائر إقليمية لها ارتباطات محلية، تقوم على "بيزنس الدين" وهو لو تعلمون من أكثر أنواع الـ "بيزنس" انتشارا ومكاسب وربحية وقد لا يكونون على دراية بطبيعة أهداف هؤلاء النفر والدوائر والذين يتسمون بقدرة فائقة على طرح الأكاذيب في صورة حقائق مستخدمين آليات مستمد ة من الدين -للأسف - فضلا عن تقديم الإغراءات بأشكال مختلفة، ولو أن هؤلاء المشككين في ذمة الإمام الأكبر بذلوا قدرا ولوا ضئيلا للتيقن من معلوماتهم - وتلك واحدة من أهم شروط الكتابة الموضوعية - فضلا عن التوجه إلى مشيخة الأزهر، أو الجهات الرقابية المنوط بها متابعة الأداء المالي للمشيخة وللشيخ لتوصلوا إلى الحقيقة بأنفسهم قبل إطلاق قنابلهم الدخانية التي لن يكون لها أثر يذكر بإذن الله، لأنها تمس جدارا صلبا من الشفافية والزهد- فهو أي الإمام -ليس من هذا الصنف الذي يتطلع إلى ما لدى الآخر حتى لو تجسد ذلك الآخر في الدولة، ولعل حقيقة مرتبه الذي يحصل عليه من وجوده على رأس هذه المؤسسة العريقة -2600 جنيه شهريا – تؤكد هذه الخاصية في الشيخ الجليل وهي خاصية متجذرة في شخصيته، وهو ما يتجلى في إعلانه مؤخرا أنه بصدد رد ما حصل عليه إلى خزينة الأزهر من هذا المرتب الضئيل فضلا عن رفضه الحصول على مخصصاته التي تعادل مخصصات رئيس الوزراء ومكافآت شهرية "شرعية "تصل إلى 70 ألف جنيه، وهي أرقام مغرية جدا لضعاف النفوس وطلاب مباهج الدنيا وهو لا ينتمي إلى هذا النوع من البشر أو العلماء وهم كثر في واقعنا وذلك يعكس ما تربى عليه من محددات أٍساسية في بيت صوفي، يمزج بين الدين والدنيا دون جشع تصدرتها القناعة في ظل أجواء مقبولة من الثراء غير الفاحش الذي وفر إمكانية الإنفاق على ضيوف الساحة من مريدي وزوار والده شيخ الطريقة الخلوتية، شيخنا الراحل محمد أحمد الطيب وهي ساحة ما زالت ممتدة حتى يومنا هذا في مركز القرنة وهو ما جعله يؤثر دوما أن يكون بمنأى عن الشبهات حتى ولو كانت مشروعة - إن جاز لي القول - وثمة حقيقة أعلمها عنه، وهي أن مرتبه في مشيخة الأزهر يقل بقيمة الربع عن مرتبه الذي كان يحصل عليه عندما كان رئيسا لجامعة الأزهر قبل ما يقترب من العام. ثالثا: في تقديري أن ثمة نفرا من داخل مؤسسة الأزهر يلعبون دورا خفيا في تأجيج الحملة ضد فضيلة الإمام الأكبر، وذلك لأنه بصراحة ووضوح رفض أن تستمر أوضاع مقلوبة وغير عادلة في هذه المؤسسة ذات الطابع الديني، والتي يتعين أن تقوم على قواعد شرع الله ويتسم أداء العاملين بها - خاصة كبار العلماء - بالحد الأدنى من النزاهة ووفقا لمعلوماتي، والتي أقسم أنه ليس هو مصدرها. إنه فوجئ عندما تولى موقعه الجليل بوجود تفاوت شديد الاتساع بين مرتبات ومكافآت نفر من المحيطين بالإمام الراحل فضيلة الدكتور محمد سيد طنطاوي الذين استغل البعض منهم طيبته وسماحته وعدم تدقيقه في الأمور المالية بحكم مقدار الثقة التي منحها لهم فأعاد الحقوق إلى نصابها، وأوقف مسلسل النهب المنظم لأموال الأزهر التي كان يحصل عليها البعض من دون وجه حق، وبالطبع فإن الذين أضيروا من هذه الإجراءات التي سدت عيونا كانت تفيض عليهم في كل الأوقات بالغالي والنفيس، لابد أن يطرقوا كل باب لمحاولة تشويه سمعة الرجل واستغلوا في ذلك كل وسيلة بما فيها الاحتجاجات الفئوية التي أعقبت ثورة الخامس والعشرين من يناير واللقاءات التي يحضرها فضيلة الإمام، وكان آخرها لقاء مع أئمة وزارة الأوقاف بيد أن الأغلبية ثارت وأوقفت هؤلاء الذين أرادوا دفع الشيخ إلى الاستقالة حتى تعود الأوضاع السابقة إلى سيرتها الأولى، ويستعيدوا الهيمنة على كعكة الأزهر التي وجدت لها أخيرا صاحبا يحاول أن يقسمها بالعدل والقسطاس. رابعا: الفساد في المؤسسة العريقة لم يتوقف عند هذا الحد وإنما طال خلال العقود الماضية مجالات عدة بما في ذلك مجال الإعارة إلى الخارج والتي بات معروفا أنه لم يكن بمقدور أحد الحصول عليها -قبل مجيء فضيلة الدكتور الطيب – إلا بعد أن يدفع المعلوم لبعض القائمين على اللجان المناط بها اختيار المعارين، فقد غير الشيخ الأسلوب والمنهج واللجان التي باتت متعددة ولا تقتصر على نمط اختباري واحد وإنما تأخذ أشكالا متنوعة مما أتاح العام الماضي لكثيرين طالت أشواقهم فرصة السفر للإعارة فحصلوا عليها دون عناء إلا حفظهم للقرآن الكريم وأداء ثلاثة اختبارات، وقد خاض شقيق لي هذه التجربة ولم ينقذه إلا مجيء الشيخ الطيب إلى رأس مشيخة الأزهر، وأقسم بالله العظيم أنه لا يعلم حتى كتابة هذه السطور بحالة شقيقي، والذي ظل لسنوات تزيد على العشر يتقدم لامتحان الإعارة لكنه لم يتمكن أبدا من اختراق القواعد الموضوعة، والمتمثلة في دفع المعلوم لأعضاء اللجنة والذي كان يتجاوز قدراته المالية رغم مهارته المرتفعة في حفظ القرآن الكريم وعندما تغير الحال في زمن الطيب استطاع أن يعبر ثلاثا من الاختبارات بسهولة مع المئات من أمثاله الذين انتظروا طويلا فرصة الإعارة. خامسا: من أثاروا الغبار حول رحلته العلاجية إلى فرنسا خلال شهر نوفمبر الماضي طرحوا جملة من الأكاذيب، أولها يتعلق بالفترة التي أمضاها في باريس فذكروا أنها ثلاثة أسابيع في حين أنه أمضى أسبوعا واحدا منها وكانت السفارة المصرية هي التي تتولى متابعة تكاليف العلاج والإقامة. وثانيها أنه اصطحب معه نجله المهندس محمود على نفقة صندوق الزكاة والتبرعات بالأزهر وهو ما لم يحدث مطلقا فمحمود بالأساس يعمل بقطاع المقاولات بالأقصر وليس في حاجة إلى أموال زكاة الأزهر، وهو مقتدر ماليا من جهده الخاص والشيخ نفسه لا يقبل مثل هذا السلوك. سادسا: إن الإمام الجليل يتبنى موقفا شديد الاستنارة من مسألة الفتنة الطائفية داخل مصر، وبالتالي هو ليس من المؤمنين بنظرية تبويس اللحى التي هاجمه البعض بتطبيقها لدى زيارة لم يقم بها مطلقا لقرية صول التي شهدت مؤخرا واحدة من تجليات هذه الفتنة وذلك هو المدهش، ويؤكد أن هؤلاء يمتلكون قدرة فائقة على التجني على شيخ الأزهر الذي لم يرفض زيارة القرية لكنه ينتظر اكتمال بناء الكنيسة التي تعرضت للهدم، ولعل البعض يتذكر حملته الناجحة في أعقاب الاعتداء على كنيسة القديسين بالإسكندرية في الأول يناير الماضي وما قدمه من طروحات ورؤى تصب في منحى يكرس حالة التوافق الوطني مستندا إلى أحكام الشريعة ووقائع التاريخ والتي حظيت بالتقدير من الأغلبية دون أن يؤثر في موقفه بعض من الشطط مارسه شباب الكنيسة، عندما قام بزيارة البابا شنودة برفقة الدكتور علي جمعة مفتي الديار المصرية ووزير الأوقاف السابق الدكتور محمود زقزوق في أعقاب هذه الواقعة. ما يود المرء الوصول إليه من هذه الحقائق وغيرها الكثير الذي لا يتسع المقام لسرده هو أن ثمة محاولة لتشويه ليس الدكتور محمد أحمد الطيب وإنما المنهجية التي يطبقها، وهو على رأس المؤسسة الدينية التي يقودها منذ عام تقريبا وأحدث فيها تغييرات نوعية باتجاه استعادة دورها التنويري، القائم على وسطية الإسلام وعقلانية الفكر والخطاب الديني بمنأى عن الاستغراق في مستنقع الماضي بلا حساب أو تفكير ومخاصمة معطيات الحاضر، وتجنب تحديات الزمن الآتي، فضلا عن إعلانه حربا لا هوادة فيها ضد قوى وعناصر تحاول أن توظف الإسلام لخدمة مصالح فئوية ومذهبية ضيقة وهو ما يفقدها الكثير مما تربحه من ذلك. السطر الأخير: أشواقي إليك غير قابلة للسكوت والغياب. [email protected]