12 سبتمبر 2025
تسجيلهل ما يجري في المحروسة الآن موجة ثانية من ثورة يناير التي انبثقت وقائعها المدهشة في الخامس والعشرين من هذا الشهر في العام 2011؟ يقيني أن ما شاهدناه وتابعناه خلال الأيام الأخيرة تزامنا مع الذكرى الثانية للثورة لا يمت بصلة لروحها وأهدافها وتجلياتها التي ظهرت بهية ونبيلة على مدى ثمانية عشر يوما بداية من 25 يناير إلى 11 فبراير 2011 والتي تجسدت في الحرص على الوطن ومنشآته وبنيته التحتية ووسائل مواصلاته وموارده وأسباب عيشه. ما جرى كان غريبا عن النسق الحضاري لشعب المحروسة الذي تربى على منظومة قيم تعلي الشأن العام والمصالح العليا والتسامح والقبول بالآخر واحترام ثقافة الاختلاف ووحدة الوطن أرضا وبشرا ما جرى هو مخيف ومرعب وينبئ عن تغيير جوهري في ذهنية المصريين التي كانت تنزع على الدوام إلى السلام والسكينة والتعامل مع معضلة من منظور يرفع شراع الإخوة. لم تكن الثورة "أي ثورة" تخريبا أو تدميرا أو تعطيلا لمصالح الشعب تحت حجة الضغط على السلطة الحاكمة مهما كانت توجهاتها وأنا بالمناسبة لا أنتمي إلى جماعة الإخوان المسلمين وأعلنت انسحابي من تأييد الرئيس الطالع من رحمها الدكتور محمد مرسي منذ إصداره الإعلان الدستوري في نوفمبر الماضي والذي شكل نقطة البداية في متوالية الانقسام والعنف التي تشهدها ساحة المحروسة. ليس مقبولا أن تكون الموجة الثانية من الثورة مصحوبة بالدماء ومحاولة اقتحام مؤسسات الدولة وإجبار وسائل المواصلات العامة على التوقف وإغلاق الطرق والجسور الحيوية التي تتماس مع مصالح الناس وكنت واحدا من ضحايا هذا الإغلاق عندما أجبرت على الوقوف على كوبري السادس من أكتوبر عدة ساعات بعد أن قام من يسمون بـ"ألتراس الأهلي" بهذا العمل المرفوض يوم الأربعاء الماضي فتعطلت مصالح العباد وجعلهم ينفرون من الثورة والثوار. والسؤال الرئيسي: من يقف وراء هؤلاء النفر الذين استغلوا الذكرى الثانية لثورة يناير للتورط في أعمال العنف والقتل ومحاربة رجال الأمن رغم تحفظاتي على أدائهم الذي مازال مصرا في بعض الأحيان على أساليب نظام مبارك. على وجه اليقين ليس من يمارس بهذه الأفعال ثوريا ولا ينتمي إلى ثورة يناير فهل معنى ذلك أن ما يسمى بالطرف الثالث والذي يجسد الحضور الحي للنظام السابق الذي أزيح في ضربة معلم عبر آلية الحشد الجماهيري والمكثف والسلمي مازال هو رأس الحربة فيما يجري في المحروسة من وقائع مرة شديدة الوطأة وقاسية التأثير. هل ثمة دوائر مازالت في السلطة غير راضية عن التحولات النوعية التي تقع في المحروسة فتعمل على إجهاضها من خلال وضعها دوما أمام فوهة النيران القابلة للاشتعال في أي لحظة من فرط استمرار الأخطاء نفسها التي كان يمارسها نظام مبارك؟ هل يمكن للمرء أن يتجاهل الأجواء السلبية التي أفرزتها هذه الأخطاء والتي كشفت في جانب منها أن ثمة محاولة حقيقية وجادة لهيمنة جماعة الإخوان المسلمين على مفاصل السلطة وقيام الرئيس مرسي بسلسلة من الخطوات التي تصب في هذا المنحى على نحو بدا للكثيرين أنه ليس رئيسا لمصر بقدر ما هو رئيس لجماعة بل إن أحد العناصر القيادية المنشقة عن الجماعة وصفته بأنه مسؤول ملف الرئاسة في الجماعة وإن كنت شخصيا لا أتفق مع هذا المنظور للرجل الذي جاء إلى رئاسة الجمهورية منتخبا بأصوات أكثر من 12 مليون شخص بينما لا يتجاوز أعضاء الجماعة في أحسن التقديرات ثلاثة ملايين شخص وربما أقل من ذلك بكثير. ولابد لي وأنا أقرأ تجليات المشهد المصري أن أتوقع أمام تنامي الدور المرعب الذي أضحى يمارسه من يسمون بالألتراس سواء في القاهرة أو في بورسعيد خاصة في ضوء الحكم الذي أصدرته محكمة جنايات بورسعيد أمس الأول. فقد حول ألتراس النادي المصري المدينة التي قادت مقاومة العدوان الثلاثي في العام 1956 إلى ساحة للمواجهة مع قوات الأمن محاولا اقتحام السجن العمومي لإطلاق سراح المتهمين في مذبحة بورسعيد في فبراير الماضي والتي راح ضحيتها حوالي 74 شخصا من ألتراس أهلاوي، ووفقا لتعبير بيان لوزارة الداخلية المصرية فإن القتل بات عشوائيا وهستيريا في المدينة وهو ما يبعث برسالة خاطئة مؤداها أن ما يتعارض من أحكام القضاء مع هوى المتهمين أو ذويهم أو مناصريهم غير مقبول وذلك ينطوي على خطورة بالغة تسهم في تآكل مصداقية المؤسسة القضائية ويفتح الباب واسعا على مصراعيه للأهواء الشخصية وهو ما يعني دفع المحروسة إلى خانة الدولة الفاشلة وهو ما تعرضت له في مقال سابق في هذه الزاوية. إن المشهد المصري الراهن المعتم يستوجب ضرورة إحداث تغيير ولا أقصد به إسقاط الرئيس مرسي فهو منتخب من الشعب ولا يسقطه سوى الشعب عبر آلية صناديق الاقتراع وإنما يجب أن يمتد إلى جوهر السياسات والآليات التي يتبناها النظام الحالي وأظن أن ما طرحته جبهة الإنقاذ الوطني عبر بيانها الذي أصدرته بعد ظهر أمس الأول يصب إيجابيا في هذا الاتجاه ومن أبرز بنود هذا الطرح: *تشكيل لجنة تحقيق محايدة عاجلة لمحاسبة كافة المتورطين في إراقة دماء المصريين. *دعوة للمصريين بمواصلة التزام السلمية في مظاهراتهم واحتجاجاتهم المشروعة والإدانة الكاملة لأعمال العنف، خاصة العنف المفرط الذي أدى إلى سقوط الشهداء. *تشكيل لجنة قانونية محايدة لتعديل الدستور المشوه فورا، والاتفاق على المواد التي يجب تغييرها بشكل عاجل. * تشكيل حكومة إنقاذ وطني تتمتع بالكفاءة والمصداقية للاضطلاع بتحقيق مطالب الثورة، وعلى رأسها العدالة الاجتماعية، بالإضافة إلى الملفين الأمني والاقتصادي بشكل أساسي. * إزالة آثار الإعلان الدستوري الاستبدادي الباطل فيما يتصل بالعدوان على السلطة القضائية وانتهاك استقلالها، وإقالة النائب العام مع وجوب إخضاع جماعة "الإخوان المسلمين" للقانون بعد أن أصبحت طرفا أصيلا في إدارة أمور البلاد بغير سند من القانون أو الشرعية. السطر الأخير: عودي إليّ في انتظارك مرافئي وعيناي تترقب طلوع نهارك