15 سبتمبر 2025
تسجيلجاءت ثورة تونس لتدق أجراس الخطر في المنطقة العربية بعد أن استطاع الشعب هناك الإطاحة بأول نظام حكم غير ديمقراطي عبر ثورة شعبية لا تحظى بدعم أي من قوات الجيش أو الشرطة على الأقل في بدايتها، فضلا عن عدم وجود قيادات حزبية أو نقابية لها. وعندما أعلن التليفزيون التونسي عن هروب الرئيس بن علي إلى خارج البلاد، تحسست نظم الحكم الشبيهة بالنظام التونسي رقابها، وأعلنت عن استنفار غير معلن خوفاً من امتداد الزلزال التونسي إليها، وقامت بتقديم عدد من الرشا الاقتصادية للمواطنين تمثلت في خفض أسعار بعض السلع الأساسية، وتقديم معونات نقدية للفقراء والطبقة الوسطى، ودعوة المسؤولين لعدم إلقاء أية تصريحات تثير سخط الشعوب. كان الجميع بلا استثناء متأكدين أن دول المنطقة مقدمة على تاريخ جديد بعد الثورة التونسية وفقا لنظرية الدومينو التي تقول إن سقوط أحد قطع الدومينو سوف يتلوه بالتأكيد سقوط باقي القطع واحدة تلو الأخرى. وكانت أولى القطع المرشحة للسقوط مصر والجزائر والأردن باعتبارها من أكثر الدول شبها بتونس، فضلا عن الاحتجاجات الفئوية التي شهدتها خلال السنوات الخمس الأخيرة. لكن ما لم يكن متوقعا أن يأتي ميعاد السقوط بهذه السرعة التي لم تتعد أياما. فما بين هروب الرئيس التونسي بن علي وما بين الانتفاضة التي اندلعت في مصر يوم الخامس والعشرين من الشهر الجاري لم يكن هناك سوى أحد عشر يوما فقط. ورغم أن النظام الحاكم في مصر سعى للاستعداد جيدا للإفلات من توابع الزلزال التونسي سواء عبر الامتناع عن تنفيذ بعض السياسات التي كانت ستؤدي إلى رفع أسعار السلع الأساسية، أو عبر الاستعداد أمنيا لجميع التطورات بعقد اجتماع عاجل لمجلس الدفاع الأعلى في اليوم التالي لسقوط بن علي والذي يضم وزراء الدفاع والداخلية بالأساس، ليرسل رسالة مفادها أنه يتمتع بمساندة قوات الجيش والشرطة .. رغم ذلك إلا أنه لم يقم بتقديم التنازلات الحقيقية التي تؤجل وصول هذه التوابع إليه وراهن على قبضته الأمنية القوية .. فوقعت الواقعة. جاءت الانتفاضة التي دعا لها شباب على مواقع التواصل الاجتماعي مستغلين يوم الاحتفال بعيد الشرطة لجعله يوم غضب ضد النظام وسياساته. ولم يكن أي من النظام الحاكم أو حتى المعارضة تتوقع أن تكون التظاهرات في ذلك اليوم بالشكل أو بالحجم الذي جاءت به فالجميع كانوا يتوقعون يوما عاديا يتضمن تجمعا محدودا لبعض الشباب في مكان واحد .. لم يكن هناك أدنى احتمال بأن يمتد التظاهر حتى إلى خارج العاصمة .. لكن جاءت الأحداث لتخالف كل تلك التوقعات ولتطيح بأحلام الحالمين بمرور اليوم بشكل هادئ .. وربما يكون هذا هو السبب الحقيقي الذي دفع وزارة الداخلية المصرية لإصدار قراراتها لرجال الشرطة بالتعامل السلمي مع المتظاهرين في البداية .. لكن حينما جاء الواقع مخالفا وامتلأت الميادين بعشرات آلاف من المتظاهرين تغير الوضع وتبدلت الأوامر التي دفعت قوات الأمن لفض هذه التظاهرات بالقوة .. فسالت دماء الشهداء والجرحى في الشوارع جراء العنف الذي مارسته قوى الأمن والذي زاد من اشتعال النار في صدور المواطنين الذين أصروا على عدم الخروج من الميادين واستمرار التظاهر .. وتغيرت الشعارات التي كانت تطالب بتحسين الأحوال المعيشية وبعض الإصلاحات السياسية إلى شعارات ليس لها سوى هدف واحد هو سقوط النظام. في هذه الأثناء كانت العواصم الغربية خاصة واشنطن، تتابع بمزيد من القلق، تطورات الأوضاع في مصر. وقد جاءت تصريحاتها لتعبر بشكل جلي على هذا القلق المتزايد. فقد أكدت وزيرة الخارجية الأمريكية هيلاري كلينتون في أول تصريح لها أن النظام الحاكم في مصر مستقر لكنها طالبته بمزيد من الانفتاح والاستماع لمصالح الشعب .. وبعدها بساعات أعلن المتحدث باسم البيت الأبيض في رده على سؤال بشأن علاقات واشنطن مع مصر أن القاهرة لا تزال أحد حلفاء واشنطن الأقوياء .. لكن لم تمر سوى ساعات أخرى ومع ارتفاع وتيرة الصدامات في شوارع القاهرة وغيرها من المدن المصرية حتى جاء بيان البيت الأبيض الذي أعلن فيه الرئيس الأمريكي أنه يتابع عن كثب تطورات الأوضاع. وهو ما يعني أن واشنطن قد أعلنت عن استنفار غير معلن لمواجهة تلك التطورات التي تشي بأن الأفق ملبد بالغيوم. تعاظمت وتيرة القلق الأمريكي في ثاني أيام الاحتجاج المصري وظهر ذلك في تصريحات الوزيرة كلينتون التي أكدت خلال لقائها مع وزير الخارجية الأردني ناصر جودة، أن الإصلاح في مصر يجب أن يكون ضمن أجندة الحكومة وهو ما يعني أن الولايات المتحدة قد ألقت بكل ثقلها خلف النظام الحاكم في مصر الذي يمثل لها أهمية إستراتيجية كبرى لحماية مصالحها في منطقة الشرق الأوسط. هذا الموقف الأمريكي قوبل برفض من قبل وسائل الإعلام الأمريكية حيث انتقدت صحيفة الواشنطن بوست في افتتاحيتها بيان الخارجية الأمريكية واصفة قيام الإدارة الأمريكية برمي ثقلها خلف الرئيس مبارك بـ"الحماقة". وقالت الصحيفة إن تصريحات وزيرة الخارجية الأمريكية تظهر أن الإدارة الأمريكية لا تزال متخلفة بشكل خطير عن وتيرة الأحداث في الشرق الأوسط، مشيرة إلى أنها لم تستطع توقع أحداث الثورة في تونس عندما خرجت لتعلن أنها تقف على الحياد، قبل أيام من سقوط الرئيس التونسي. وأكدت على أن "مجريات الأحداث تظهر عدم استقرار الحكومة، حيث قتل ثلاثة أشخاص و اعتصم الآلاف في ميدان التحرير وسط القاهرة". واعتبرت أن الدعم الأمريكي "الأعمى" للرئيس مبارك يرفع احتمال وقوع كارثة سياسية في مصر، داعية الرئيس أوباما ووزيرته كلينتون لترك الحديث عن استقرار السلطة في مصر، وبدء الحديث عن كيفية تغييرها. ولم تختلف المواقف الأوروبية عن الموقف الأمريكي، حيث جاءت جميعها لتؤكد أن هناك قلقا متزايدا على مستقبل النظام الذي يحكم دولة كبيرة ومهمة في المنطقة الأكثر سخونة في العالم، خاصة في ظل التطورات المتتالية التي تشهدها تلك المنطقة مثلما هو الحال في لبنان التي سيطرت فيها المعارضة بقيادة حزب الله على الحكم هناك، وهو ما يعني سقوط أحد خطوط الدفاع الغربية المهمة في المنطقة في يد حلف الممانعة الساعي إلى تقليص النفوذ الغربي في المنطقة إلى أقل حد ممكن. وإذا ما كان من الممكن تقبل سقوط لبنان، فإنه من غير الممكن تقبل سقوط مصر .. ذلك أن سقوط لبنان ستكون تبعاته محدودة إقليميا، خاصة أن توازن القوى في ذلك البلد كان يؤكد أنه عاجلا أو آجلا سوف يتحقق هذا السقوط .. لكن سقوط مصر وخروجها من التحالف الأمريكي الإسرائيلي مع ما يسمى بقوى الاعتدال العربي سوف يغير وجه المنطقة .. وسوف تكون أولى تلك التداعيات هي تحقق نظرية الدومينو كاملة في معظم دول المنطقة حيث سيتغير الجزء الأكبر من تلك النظم الحاكمة في هذه البلدان، خاصة تلك التي تتبع قانونيا النظام الجمهوري .. تماما كما حدث بعد ثورة 1952 التي تتابعت بعدها الثورات العسكرية في معظم الدول العربية. ووقوع هذه التطورات يعني سقوط كل حلفاء واشنطن والغرب في المنطقة وتاليا سقوط المنظومة الأمنية التي حكمت المنطقة خلال العقود الأربعة الأخيرة وهو ما سوف يدفع بالتهديدات التي تطال المصالح الغربية إلى قمتها. لذا ليس غريبا أن ترتعد واشنطن حينما تنتفض القاهرة خوفا من تبعات هذه الانتفاضة التي تشير كل المؤشرات أنها مستمرة .. وليس غريبا أيضا أن تسعى واشنطن بكل قوتها للإبقاء على النظام الحاكم، على أقل الفروض حتى تحصل على ضمانات من حكام القاهرة الجدد بحماية مصالحها في المنطقة.