18 سبتمبر 2025
تسجيلفولكهارد فيندفور إنسان جميل، وإذا كان هناك آخرون غيره يتحلون بالجمال الإنساني، فإنه يتميز عن كثيرين منهم بأنه مثقف موسوعي، وصاحب رؤية جلية تجاه مختلف مجالات الحياة، ولكن لا بد لي قبل أن أشير إلى هذه الرؤية الجلية أن أتحدث أولا عن صاحبها ولو عبر سطور قلائل، وهذا ما سأحاول القيام به. خلال سنوات الحرب العالمية الثانية، كان فولكهارد صبيا صغيرا، وقبل هزيمة ألمانيا النازية رسميا، كان له نصيب مؤلم مما جرى لوطنه، حيث قُتلَ والده أثناء إحدى الغارات الجوية، وبعد عشر سنوات على انتحار الزعيم النازي أدولف هتلر واستسلام ألمانيا غادر أرض وطنه مصطحبا معه والدته، لكي يستقر في مصر، وحتى الآن فإنه لا يزال يقيم فيها منذ سنة 1955 وعلى امتداد تلك السنوات حصل على الثانوية الألمانية وهو في مصر، ودرس اللغة العربية وآدابها في جامعة القاهرة، ثم درس اللغات الشرقية في جامعة عين شمس، وظل يسعى للارتواء من ينابيع الثقافة الإنسانية، وهذا ما حققه بصورة جديرة بالتقدير والإعجاب، وما يزال هذا الإنسان الألماني الجميل الذي كان صبيا صغيرا ويبدو الآن مخضرما مثلي متحمسا لأن يستزيد من المعرفة، فضلا عن أن دائرة أصدقائه ومعارفه ما تزال تتوسع وتتنوع. فولكهارد فيندفور هو عميد المراسلين الصحفيين في القاهرة، وهو مدير مكتب مجلة دير شبيجل الألمانية ذات الشهرة الطاغية، وكان مقر مكتب المجلة في بيروت، لكنه تعرض لعملية اختطاف أثناء الحرب الأهلية اللبنانية، وبعد أن تم الإفراج عنه قام بتأسيس مكتب المجلة في القاهرة بموافقة شخصية من أنور السادات، وكان واحدا ممن سافروا معه خلال رحلته الشهيرة إلى القدس المحتلة، تمهيدا لما جرى بعد ذلك من توقيع اتفاقية كامب ديفيد المشئومة من وجهة نظري، وإن كانت من وجهة نظر فولكهارد فيندفور تطورا تاريخيا حاسما في حلقات الصراع العربي – الصهيوني، وقد أتيح لهذا الإنسان الألماني الجميل أن يتابع الكثير من الأحداث التاريخية عن قرب، وعلى سبيل المثال فإنه كان واحدا من القلائل الذين عادوا بالطائرة التي أقلت الإمام الخميني من باريس إلى طهران بعد فرارشاه إيران ونجاح الثورة الإسلامية المذهبية في إيران. كنت قد سمعت عن فولكهارد عدة مرات، كما قرأت عنه، لكني لم ألتقِ معه إلا منذ أقل من شهرين، حيث التقينا في مقهى ريش الشهير، وامتدت جلستنا أو سهرتنا لأكثر من أريع ساعات متواصلة، أحسست خلالها كأننا صديقان حميمان قديمان، وكنت وقتها عائدا من رحلة إلى صربيا للمشاركة في مهرجان شعري ضخم أقيم في العاصمة بلجراد، وحين أطلعته على الكتاب الذي يضم قصائد الشعراء بلغاتهم الأصلية الأم إلى جانب ترجمات تلك القصائد إلى اللغة الصربية، اكتشفت أنه يتقن تلك اللغة وأخذ يقرأ النص المترجم لقصيدتي ثم أثنى على ترجمة البروفيسور المستشرق الصربي رادي بوجوفيتش للقصيدة، وفجأة وجدته يتكلم مع أحد النوبيين العاملين في مقهى ريش باللغة الكنزية – النوبية، وفي خاتمة لقائنا الأول الممتع والمطول أراد هذا الإنسان الألماني الجميل أن يؤكد لي مدى ارتباطه بالأرض العربية واهتمامه بقضاياها، فقال لي – وهو يضحك- أتعرف أني حين أزور وطني ألمانيا بين حين وآخر، أفاجأ بأن كثيرين ممن أعرفهم يتصورون أني قد أصبحت مواطنا مصريا – عربيا! فولكهارد.. ألماني أم عربي؟ ليس هذا هو السؤال الذي أود أن أطرحه، فالحقيقة أني أريد أن أتلقى إجابة على سؤال آخر: هل استطاع المراسلون العرب الذين يؤدون أعمالهم في دول العالم المختلفة أن يكونوا مثل فولكهارد في التعمق وفي التحمس لمعرفة الآخرين من أبناء الدول التي يعملون فيها أم أنهم يكتفون بالمظاهر والقشور؟ هذا هو السؤال الذي يحيرني.