17 سبتمبر 2025

تسجيل

لا تطببوا عيالكم قسرا

27 نوفمبر 2018

مازال العديد من الآباء والأمهات يرغمون أولادهم وبناتهم على دراسة الطب، من منطلق «البرستيج»، ويقول الواحد منهم: الولد بيدرس طب، ويحس ساعتها أنه صعد عدة درجات في سلم المجد الاجتماعي، وليس مهماً عنده أن الولد كان يريد أن يدرس المحاسبة أو علم النفس، بل المهم أنه رفع رأس العائلة عالياً بدخول كلية الطب، ولهذا صار عدد كليات الطب عندنا أكبر من عدد رياض الأطفال، وصار القبول في بعضها أسهل من دخول الحمام في الأسواق العامة، وبعد أن صار كل «زول» عنده إمكانيات يسافر إلى أحد بلدان «السياحة الطبية»، لعلاج البواسير والتهاب الجيوب الأنفية، وجدها أصحاب رؤوس الأموال السودانيين فرصة، فتكاثرت العيادات والمستشفيات الخاصة مثل الفطر، ثم اكتشف أصحاب القروش والكروش، أن إنشاء كليات للطب، تجارة رابحة، حتى صار عددها يفوق عدد المطربات. دراسة الطب تضمن للدارس مستقبلاً محدداً وشبه مضمون، حتى وإن صار الأطباء عاجزين عن توفير أساسيات المعيشة لعائلاتهم، قبل انقضاء 12 سنة على دخولهم الحياة العملية، فلأننا لا نقدّر أن الطبيب العمومي هو عصب الخدمات الطبية، فإننا لا نعرض عليه شروط خدمة لائقة، ومن ثم فإن حلم كل طبيب هو أن يصبح «أخصائياً»، ثم استشارياً، وبهذا وحده يضمن الراتب المحترم والمكانة اللائقة، ويفوت على الآباء والأمهات الذين يرغمون عيالهم على دراسة الطب، أنهم يزجون بهم في ميدان شاق وصعب، فدراسة الطب تتطلب صبراً وجلدا ومثابرة ودأبا على مدى لا يقل عن ست سنوات، فلا تنخدعوا بسهولة مناهج الجامعات البروس، لأن الطبيب يظل معظم سنوات عمره خاضعا لامتحانات، للانتقال من مستوى مهني إلى آخر، ومطالب بـ»المذاكرة» طوال مسيرته المهنية كي يواكب المستجدات في مجال الطب وما هو أهم من الجانب الأكاديمي، هو أن يكون دارس الطب راغباً في دخول ميدان الطبابة، ومستعداً نفسياً لتحمل أعباء ضخمة تتطلب قوة التحمل و»طول البال» والحس الإنساني، وجميع المستشفيات في جميع أنحاء العالم تكلف الطبيب في مرحلة أو أخرى بأن يعمل 36 ساعة متصلة أو أكثر، والطبيب – ومهما علت درجته الوظيفية – يجب أن يكون مزوداً على الدوام بجهاز اتصال، لأنه من الوارد استدعاؤه للعمل خلال عطلته الأسبوعية أو السنوية أو العارضة، والجراح قد يعمل يوما ثماني ساعات ويوماً آخر 14 ساعة متصلة (بدون أجر إضافي)، ومع هذا لم يعد الأطباء - خصوصا صغارهم، مرفهين ومدللين ومميزين كما كان حالهم قبل 25 سنة مثلاً من طلعوا فيها هم أطباء التجميل، بعد أن صار الهوس بالجمال وبائياً، وصار حلم كل فتاة أن يكون أنفها في جمال أنف جعفر عباس، القادر على شفط الأوكسجين وسط حريق في محطة بترول، وصار شفط الدهون من البطن والأرداف عملاً روتينياً في العديد من المستشفيات الخاصة، وصار بإمكان أي فتاة أن تدخل عيادة تجميل وهي تحمل ألبوماً من الصور وتقول للدكتور: أريد شفتي نوال الزغبي، وعيون شعبولا، وأنف بنت العجرمية ورقبة داوود حسين!! وأدى الهوس بالجمال المفبرك عن طريق الجراحات إلى تطور مذهل في طب التجميل لأن الاعتبارات التجارية هي التي تحرك شركات الأدوية والبحوث الطبية، وقد يجري أبو الجعافر قريباً جراحة تجميل بعد أن قرأ في مجلة «جيرنل أوف دينتال ريسيرش»، المتعلقة بأبحاث طب الأسنان أن مستشفى كنجز كولدج في لندن نجح في تزريع الأسنان باستخدام الخلايا الجذعية، بنفس طريقة تزريع الأعضاء فحال أسناني «يكسف»، لأنني، وكنتاج للسياسة السودانية، ظللت أحسم كل ضرس يزعزع استقرار فمي بالاستئصال، ثم اضطررت إلى الاستنجاد بالأضراس المؤقتة، مجاراة لحكومتنا التي تستخدم المسكنات المؤقتة لعلاج علل البلاد المستعصية.