13 سبتمبر 2025
تسجيلعندما أصدر المفكر الأمريكي "لستر ثورو" كتابه القيم المتناطحون "Head to Head" قبل أكثر من 25 عاما والذي قام مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية بترجمته تحدث عن الصراع القادم بين الولايات المتحدة وأوروبا واليابان، إلا أن العالم تغير كثيرا خلال ربع القرن الماضي وجرت مياه هائلة من تحت الجسر، إذ شملت هذه التغيرات كافة بلدان العالم وتجمعاته الاقتصادية دون استثناء. وإذا ما أخذنا القوة الاقتصادية الكبرى التي تحدث عنها ثورو، فإن الولايات المتحدة تراجعت قوتها وثقلها الاقتصادي لتتقلص نسبتها من الاقتصاد العالمي من %25 إلى أقل من %20 في الوقت الحاضر، أما الاتحاد الأوروبي بقيادة الماكينة الألمانية، فقد عزز من ثقله، وذلك رغم الأزمة المالية التي عصفت به. وفي آسيا شهد الاقتصاد الياباني شبه جمود خلال السنوات العشر الماضية، بحيث لم يحقق نسبة نمو تذكر وبقيت معدلات النمو قريبة من الصفر، في الوقت الذي حقق جاره الصيني القفزة بعد الأخرى ليتجاوز فرنسا وبريطانيا ومن ثم ألمانيا واليابان وليحتل المركز الثاني، كأكبر اقتصاد عالمي بعد الولايات المتحدة في فترة زمنية قصيرة نسبيا. لقد غير ذلك الكثير من الثوابت في العلاقات الدولية وفي الفكر الاقتصادي بشكل عام، اذ لم تعد باعتقادنا نظرية السيد "ثورو" صالحة، باعتبار أن الصراع القادم هو بين القوى الثلاث التي حددها سابقا. ومن وجهة نظرنا، فإن الصراع الحالي هو بين الولايات المتحدة وأوروبا والصين والتي تشكل القوى الاقتصادية الثلاث الرئيسية وتستحوذ على ما يقارب %60 من الاقتصاد العالمي، حيث سيحتدم الصراع بينها وبشدة في السنوات القادمة، أما اليابان، فقد خرجت من المعادلة، وهي تسعى لبذل محاولات لاستعادة بعض قواها، إلا أن اشتداد حدة هذا الصراع لا يتيح لها الكثير من المناورة، وبالأخص بعد الضرر الذي لحق بقطاع الطاقة لديها بسبب كارثة مفاعل فوكوشيما النووي. ومن بين القوى الثلاث المكونة للصراع القادم، تأتي الصين في المقدمة حتى الآن، فهي الأسرع نموا والأكثر استقطابا للمشاريع الصناعية والتوسع الاقتصادي في العالم على حساب القوى التقليدية، وذلك بفضل القدرات التنافسية الهائلة التي تتمتع بها وكثافة إنتاجها ورخص قواها العاملة. ويأتي الاتحاد الأوروبي في المرتبة الثانية، وربما يكون الأكثر قدرة من الصين إذا ما تمكن من تجاوز تداعيات الأزمة واستطاع أن يوحد سياساته المالية، وهو ما يسعى إليه حاليا، حيث سيؤدي ذلك إلى تعزيز مكانة اليورو وإيجاد سياسة مالية أوروبية موحدة وقادرة على ضبط التجاوزات السابقة واستقطاب رؤوس أموال هائلة لمنطقة "اليورو"، علما بأن بريطانيا ما زالت تهدد بالانسحاب من الاتحاد في العام القادم 2014 من خلال استفتاء، مما قد يضعف الاتحاد وبريطانيا على حد سواء. تبقى الولايات المتحدة الأقل قدرة والمتراجعة، وذلك رغم الدفعة الكبيرة التي حصلت عليها بفضل الغاز والنفط الصخريين واللذين حولاها إلى دولة مصدرة للهايدركربون مرة أخرى، إلا أن عجز الموازنة وارتفاع حجم الدين تشكل مخاطر جدية للاقتصاد الأمريكي المريض. وبالإضافة إلى المكونات لاقتصادية، هناك التعليم والتقنيات الحديثة وعالم الاتصالات والمصادر الطبيعية والتحالفات والتي سيكون لها دور مؤثر في الصراع القادم بين القوى الثلاث. والى جانب هذه القوى، فمن غير المستبعد أن تدخل قوى جديدة وبقوة ضمن الصراع القادم، وذلك إذا ما تغيرت موازين القوى بسرعة، فمجموعة "بريكس" بقيادة الصين إلى جانب الهند وروسيا والبرازيل وجنوب إفريقيا تحاول تغيير الموازين الاقتصادية والاستراتيجية في العالم، الا أن التناقضات التقليدية بين بعض اقطابها (الصين والهند) ربما يعرقل بعض توجهاتها المستقبلية، بما فيها إقامة مؤسسات مالية ذات طابع عالمي. هذه صورة موجزة جدا لطبيعة التغيرات القادمة تتضمنها الكثير من التفاصيل والرؤى الشاملة التي هي بحاجة إلى تحليل لاستخلاص النتائج وتحديد السياسات والتوجهات التي تناسب كل دولة أو مجموعة من الدول وتعزيز من قدراتها التنافسية ونسج التحالفات التي تحافظ على مصالحها.