10 سبتمبر 2025

تسجيل

الدولة العثمانية حين تخلت

27 سبتمبر 2023

في بحثنا في الظروف التي شكلت العقل العربي المسلم الحديث، مررنا سريعا بمحطات مهمة اعترت فيها العقلية الإسلامية مراحل من التخلي التدريجي عن جوهر الإسلام أو المنهج القويم الذي كان سببا أساسيا في نهوض المسلمين، وأدى التخلي عنه لتخلفهم المهين. وحدث هذا التخلي التدريجي، على مستوى القمة، تحت وطأة قوى الإرجاف التي كانت ومازالت تعمل بلا كلل ولا ملل للإجهاز على الأمة. وسنعرض لنشاطها المعاصر لاحقا. ولعلنا نقف بتفصيل أكبر عند مرحلة الدولة العثمانية فالأمر لم يقف عند تحريم المطبعة والأسطرلاب، بل سيصل إلى وقف التحديث في كل شيء، تقريبا، بما في ذلك الأسلحة المتقدمة بحجة أنها من البدع والضلالات، لدرجة أن محمد علي باشا والي مصر، سيرسل رسالة إلى الخليفة في زمنه، السلطان محمود الثاني، يحثه فيها أن يحاكي التحديثات التي يدخلها في مصر ومحذرا إياه من سوء العواقب، لكن السلطان المقيد بالحرس القديم المتمثل في الشيوخ الرجعيين والإنكشارية سيفشل في التحرك بالسرعة الكافية، بل إنه سيتخذ من محمد علي عدوا بدلا من الأوروبيين. ويروي كتاب «التجربة الإصلاحية لمحمد علي باشا في بنـــاء دولة مصرية حـــديثة» كيف أن الباشا لم يستعن بضباط أتراك لتدريب جيشه الحديث في مصر لأن الجيش العثماني لم يكن أهلا لذلك. حتى أنه عندما وصلت الرحلة إلى السلطان كانت السفينة توشك على الغرق، وتملك منها العدو الخارجي، وكان الموت مسألة وقت. وليس هذا إلا لأن من كانوا وراء هذه المسيرة الطويلة من الهدم المنظم للكيان الإسلامي كانوا أكثر صبرا ومثابرة على تنفيذ خططهم لدرجة أنهم تدخلوا ضد محمد علي عندما بدا أنه قد يغلب على السلطة في اسطنبول ويتولى الخلافة. وستشهد تلك الفترة تطورات جوهرية في مستقبل الكيان الإسلامي وتشكيل العقل المسلم، سِمَتُها الكبرى التدخل الخارجي المعلن في صياغة وصناعة الاثنين معا. فنتيجة التردي والضعف العثماني الذي سيُعجز اسطنبول عن إخماد حركة التمرد في اليونان، التي كانت بتحريض غربي، سيطلب الباب العالي من محمد علي إنقاذ الموقف بوعد إضافة بلاد الشام إلى ولايته. ومع انتهاء الحرب بالخسارة نتيجة التدخل الأوروبي ضد المسملين في معركة نافارين الشهيرة، 1827، بعد انتصارات إبراهيم باشا الأولية على اليونانيين، لن يفي السلطان بوعده، ما سيدفع محمد علي، الطامح، للاستيلاء على الأراضي الموعودة بالقوة، ما سيؤدي لتدخلات خارجية خطيرة. المدهش أنه حتى عندما سيبدأ محمود الثاني في اعتماد تحديثات، لإصلاح الجيش، منها القضاء على الإنكشارية، 1826، لن يكون ذلك استجابة لدعوات محمد علي، بل تخوفا منه، مما سيوقع السلطنة العثمانية في براثن القوى الغربية التي ستمد للأستانة يد العون المشروط والذي سيودي بالسلطنة في النهاية. ففي زمن ابنه عبد المجيد الأول، في عام 1839، ستعتمد السلطنة تحديثات سيطلق عليها مسمى «تنظيمات» ستقوض سلطة الدولة، سيصيغها باشوات، درسوا في أوروبا وتشبعوا بمبادئها وحملوا أفكار ما سُمي النهضة الأوروبية، ومستشارون فرنسيون سيضعون شروطا مذلة، لا يستطيع الخليفة تغييرها أو إلغاءها إلا بموافقة الدول الكبرى. لكن القشة التي قصمت ظهر السلطنة، أن تلك التنظيمات أو التحديثات، أدخلت أمرا جللا على الأمة، كان كفيلا بزوالها. هذا الأمر هو أن تلك القوانين التي كُللت بما سمي دستور مدحت باشا لعام 1876 تخلت للمرة الأولى في عمر دولة الخلافة عن الشريعة الإسلامية كمصدر للتشريع واعتمدت بدلا منها مصادر وضعية مثل مبادئ الثورة الفرنسية. وكانت المادة 11 هي الوحيدة التي ذكرت الإسلام بأنه دين الدولة مع التعهد باحترام الأديان الأخرى. وسيتسبب الدستور في كبح سلطات السلطان، الذي تولى بعدما أطاح المتنفذون الجدد، ومنهم عناصر الاتحاد والترقي، بسلفه لأنه لم يواكب تطلعاتهم، لتبدأ الدول الغربية في تنفيذ الضربة القاضية لإنهاء الخلافة برمتها، حيث ستنشط حركة الإرجاف في بث الفرقة والصراع بين مكونات الإمبراطورية. وللحديث صلة.