13 سبتمبر 2025

تسجيل

"داعش" العدو الأكبر

27 يوليو 2015

تنبئ خارطة انتشار تنظيم "داعش" - وهو اختصار تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام - في المنطقة العربية، عن خطر داهم بات يتهدد دولها، لاسيَّما الكبرى منها، ولعل تمدده الشديد الاتساع في كل من العراق وسوريا يعكس هذه الحقيقة المريرة، على نحو واضح ودونما لبس، خاصة بعد أن سيطر على أكثر من نصف مساحة سوريا وثلث مساحة العراق. ورغم كل العمليات الجوية والبرية التي تخاض ضده، سواء من قبل التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة، أو من قبل الطيران العراقي أو الطيران التركي الذي دخل على خط محاربته قبل أيام، فإن التنظيم يكاد أن يحقق مكاسب وأرباحاً بصورة يومية، تخصم بالتأكيد من رصيد الاستقرار في النظام الإقليمي العربي، وبالذات بعد أن بات يمتلك مساحات للتأثير في كل من ليبيا ولبنان ومصر إلى حد ما، تحديدا في شمال سيناء، وإن كانت محاولاته ليتحول فيها إلى رقم مهيمن، مثلما فعل في الموصل والأنبار والرقة وتدمر، تبوء بالفشل. وثمة ملاحظات أساسية يمكن الإدلاء بها في هذا الشأن، أولها أن هذا التنظيم ليس وليد السنوات الثلاث المنصرمة، إنما هو امتداد للظاهرة الجهادية السلفية التي تكرست في عقدي الثمانينيات والتسعينيات من القرن الفائت، والتي بلغت ذروتها بالمشاركة النشطة لقياداتها وكوادرها والمنتمين إليها، خاصة من الدول العربية في حرب أفغانستان، والتي كانت آنذاك موجهة لطرد الاحتلال الشيوعي السوفيتي، فيما عرف بعد ذلك بتنظيم القاعدة والذي تحالف مع جماعات أفغانية موازية له في النشأة والتوجه، ووجدت الاستخبارات الأمريكية والغربية الفرصة مواتية لتوظف أداء وحماس هذه الجماعات، بكل ما كانت تحمله في تلك الفترة من "ديناميكية جهادية" - إن صح التعبير - في مساعيها للتغلب على الكتلة السوفيتية في إطار صراعها الممتد معها، منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية والتي كانت منطقتنا العربية ومحيطها الإسلامي مجالا حيويا لها. وشخصياً تابعت قوة وحمية هذه الجماعات الجهادية خلال زيارتي لتغطية حرب أفغانستان، تحديدا في نهاياتها في مارس من العام 1989 بالذات المعارك المشتعلة بين فصائل المجاهدين وقوات الحكومة الشيوعية في كابول، وفي مقدمتها معركة مدينة جلال أباد الإستراتيجية والتي كدت أن أتعرض فيها للإصابة، وربما القتل بعد سقوط طلقات على بعد نصف متر من وقوفي مع إحدى مجموعات المجاهدين التابعين، وشاهدت بأم عيني في المناطق المحيطة بجلال أباد مواقع المجاهدين العرب، وكذلك وجودهم المؤثر في مدينة بيشاور الباكستانية والتي تحولت إلى ما يشبه الإمارة العربية، من فرط انتشارهم فيها مع أسرهم وسكن بعض قياداتهم في فيلاتها وشققها السكنية، وكانت السلطات الباكستانية آنذاك تبدي تساهلاً في إجراءات الإقامة والبقاء على أراضيها مع هؤلاء القادمين من أراضي العرب، وهو ما حدث معي عند عبوري الحدود مع أفغانستان من دون أي تدقيق في هويتي إلا من سؤال حول وجهتي، والمفارقة أنني رددت العبارة الخطأ التي حفظني إياها القائد الميداني من المجاهدين الأفغان باللغة الفارسية أو الأوردية لا أتذكر بالضبط، فعوضا عن أن أقول إنني مجاهد عربي متجه للمشاركة مع المجاهدين الأفغان لتحرير بلادهم من الاحتلال الشيوعي، ذكرت العبارة التي كان يتعين عليَّ أن أذكرها عند العودة وهو ما جعل جندي الحدود الباكستاني يبتسم ثم يسمح لسيارتنا بالمرور. ثانياً: تكثفت هذه الديناميكية الجهادية في الكثير من البلدان العربية التي كانت مصدرا للمجاهدين العرب، ودفعت الأثمان باهظة من استقرارها وأمنها، غير أن الانطلاقة القوية لهذه الديناميكية تحققت بالغزو الأمريكي للعراق في العام 2003، والذي شكل بممارساته القمعية ولجوئه إلى سياسة المحاصصة العرقية والمذهبية والدينية، ثم فترات الاعتقال الطويلة نسبيا للعديد من الرموز والقيادات والعناصر، أرضية خصبة لنشوء جماعات جديدة تحت مسميات دينية، خاصة تنظيم القاعدة في بلاد الرافدين، والذي شهد العديد من التحولات حتى وصل إلى مرحلة داعش بعد سلسلة من الانشقاقات والانقسامات والصراعات على دوائر النفوذ العليا، بما تعنيه من ثروات وهيبة ووجاهة وقبضة حديدية في المناطق التي توجد فيها مثل هذه الجماعات، ثم جاءت الممارسات التي اتسمت بالعداء الشديد للسنة من قبل دوائر في السلطة المركزية وامتداداتها في المناطق العراقية، والتي كانت تخضع لنفوذ رئيس الوزراء السابق نور المالكي لتضيف المزيد من الوقود وعناصر التحفيز لهذه الجماعات، التي - مع تفاقم هذه الممارسات في السنوات الأخيرة لحكم المالكي ووصولها إلى حد التطهير العرقي وانتهاج سياسة الإقصاء والتهميش - أخذت تعلن عن حضورها الموغل في تطرفه وإرهابيته، والذي تبلور في الإعلان عن تنظيم الدولة الإسلامية في العراق، ثم تمدد إلى سوريا فيما بعد مستغلا حالة السيولة والفوضى في البلاد، بعد انخراط النظام الحاكم بقيادة بشار الأسد وزمرته الحاكمة، بغباء مفرط في عسكرة الأزمة من خلال توجيه كل آلة القتل وترسانته العسكرية إلى شعبه، بدلا من أن تخصص لهدفها الرئيسي المتمثل في الاحتلال الصهيوني لهضبة الجولان التي تخضع له منذ حرب يونيو 1967. ثالثاً: بوسع المرء أن يؤكد أن انتهازية الغرب، وعدوانيته المستمرة ضد شعوب المنطقة وانتهاك حقوقها وعدم تخليه عن الكيان الصهيوني كقوة احتلال ما زالت تخضع الشعب الفلسطيني لهيمنتها، مع الرفض المستمر لكل طروحات السلام، تحالفت مع حالة الاستبداد القائمة في المنطقة في دفع هذه الجماعات المتطرفة إلى الوجود، بل وفر هذان العاملان - وما زالا - الوقود المستمر لإبقاء جذوة التطرف والإرهاب متقدة والتي توشك أن تحرق العديد من أقطار المنطقة، ولا يمكن في هذا الشأن إغفال عنصر طارئ في هذه المعادلة والمتمثل في انضمام الآلاف من أبناء الحضارات المتقدمة في أوروبا والولايات المتحدة وأستراليا وكندا، إلى داعش ومثيلاته على نحو مكنه من التفاعل مع ثورة المعلومات والإعلام بكفاءة ملحوظة. رابعاً: إن التعاضد العربي لمواجهة هذه التنظيمات المتطرفة وفي مقدمتها داعش ما زال هشا ومحدودا على الرغم مما يبدو من تعاون استخباراتي في بعض المراحل والمشاركة في التحالف الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة وهو ما استغله التنظيم في تكريس حركته ومعادلاته في المنطقة، والمراهنة اليوم قوية على إطلاق القوة العربية المشتركة، والتي ستشهد اعتبارا من بعد غد الأربعاء دفعة قوية، حيث سيوقع وزراء الخارجية والدفاع العرب في اجتماعهم المشترك على برتوكول إنشاء هذه القوة، والتي - إن تم الانتهاء من تشكيلها على النحو المطلوب من السرعة - ستشكل رافدا مهما في محاربة هذا التنظيم وغيره من التنظيمات الإرهابية، باعتبارها باتت تشكل أحد مهددات الأمن القومي العربي، أو العدو الرئيسي، في المرحلة الراهنة، لأنه أخذ يخترق بنى الدولة الوطنية، فضلاً عن هدفه الأسمى لإزالة النظام الإقليمي العربي بمكوناته الحالية، والدفع بما يطلق عليه دولة الخلافة الإسلامية التي أعلنها داعش بالفعل في أجزاء من العراق وسوريا منذ يونيو من العام الماضي. خامساً: إن المواجهة الحاسمة والتي من شأنها أن تقضي على التنظيمات الإرهابية بالضربة القاضية لن تقتصر على البعد الأمني والعسكري باعتراف العديد من النخب العربية الحاكمة إلى جانب الخبراء الإستراتيجيين وإنما تستوجب إستراتيجية مواجهة شاملة سواء على مستوى الدولة الوطنية أو على مستوى النظام الإقليمي العربي وهي خطوة ما زالت تخضع للنقاش والجدل ولم يتم بلورتها في خطوات محددة تطال الجوانب التعليمية والثقافية والإعلامية والفكرية والاقتصادية وإن كانت هناك العديد من الدراسات التي قدمها باحثون ومراكز بحث في غير دولة عربية بيد أنها ما زالت بمنأى عن المقاربة الواقعية وهو أمر بات في حكم الفريضة الواجبة على الجميع في المنطقة العربية قبل أن تتفاقم التطورات مما يفتح الباب واسعا أمام هذه التنظيمات لتتسيد الموقف وتتصدر المشهد وحينها سيدفع الكل الثمن الذي قد يمتد إلى وجودهم ومصائرهم.