15 سبتمبر 2025

تسجيل

فضل الكلام والصمت (1)

27 يونيو 2015

من الوصايا النبوية، التي تُزكي الأخلاق الإنسانية، وترتقي بالنفس البشرية، وتجمع للمرء الخيرات والمنافع الدنيوية والأخروية، وكل ما جاء عنه عليه الصلاة والسلام من سنة قولية أو فعلية هو كذلك، قوله في الصحيحين:(من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت).عند تأملنا هذا الحديث، نجد أن النبي عليه الصلاة والسلام، قد قدم القول على الصمت، ما يُنبئ عن أن له أفضلية عليه؛ ولأن الأصل في الإنسان التكلم، ولكنْ ليس بأي كلام، وإنما بالخير ولا سيّما من كان يؤمن بالله واليوم، إيماناً كاملاً صحيحاً صادقاً، يظهر أثره في اعتقاده بأن الله جل وعلا سوف يحاسبه ويجازيه عن كلامه، إن خيراً فخير، وإن شراً فشر، بل إن الأمر أخطر من ذلك، ففي الأثر الصحيح: (إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله لا يلقي لها بالاً يرفعه الله بها درجات، وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالاً يهوي بها في جهنم)، كما أن الكرام الكاتبين لا يفرطون، قال تعالى: (ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد)، فالكلام كالعمل تماماً من حيث كون العبد محاسباً عليه، لذلك قال عمر بن عبد العزيز:(من لم يعدّ كلامه من عمله كثرت خطاياه)، فالعبد سالم ما سكت، فإذا تكلم فله أو عليه، وفي الحديث: (رحم الله عبداَ قال خيراً فغنم، أو سكت فسلم).لذا جاء الأمر الإلهي لعباده المؤمنين بالقول السديد، عاطفاً إياه على التقوى، فقال عز مِن قائل:(يأيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديدا)، وجعل النتيجة المترتبة على ذلك في الآية التي تليها (يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم).. يتقرر إذن مما سبق، أن القول مقدم ومفضل على الصمت إذا كان خيراً وسديداً، ولا غرو في ذلك، فذكر الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإسداء النصيحة، وإصلاح ذات البين، كل أولئك لا يكون في الأساس إلا بالكلام، وهذا يسوقنا إلى ذكر طَرَفٍ مما قيل في تفضيل كل منهما على الآخر مما جاء من كلام الأدباء والشعراء، ننقله مثلما ورد.قال أبو تمام: تناقشنا في مجلس سعيد بن عبد العزيز، في فضيلة الكلام وفضيلة الصمت، وأيهما أرفع شأناً، وأعز مكاناً، فقال واحد في المجلس: إن الصمت زين الرجل، وفضيلة من الفضائل المطلوبة له، والمكملة لأدبه، وكثرة الكلام دليل الطيش وعلامة على ضعف الرأي، فأجاب سعيد بن عبد العزيز: يا هذا إنك تمدح السكوت بالكلام، ولا يُمدح الكلام بالسكوت، ومن أنبأ عن شيء فهو أكبر منه، فقام الجاحظ وقال: كيف تقولون إن الصمت أنفع من الكلام؟ ونفع الصمت لا يتجاوز صاحبه، ونفع الكلام يعمّ ويخص، والرواة لم تروِ سكوت الصامتين كما روت كلام الناظمين والناثرين، فبالكلام أرسل الله تعالى أنبياءه، وليس بالصمت أرسلهم، ومواضع الصمت المحمودة قليلةُ، ومواطن الكلام المحمودة كثيرة، وبطول الصمت يفسد البيان، ومحادثة الرجال تلقيح لألبابها.وأعرب بالشعر، أبو الفتح البستي، فأحسن الإفصاح والبيان عن المعنى، فقال:تكلّم وسدّدْ ما استطعت فإنما كلامك حيٌ والسكوتُ جمادُفإنْ لم تَجِد قولاً سديداً تقولُه فصَمتُك عن غَيرِ السدادِ سدادُ