14 سبتمبر 2025

تسجيل

رسالة محبة إلى الشيخ المجاهد صالح كركر

27 يونيو 2012

شاهدت على الشاشات التونسية عودة المجاهد الأصيل الشيخ صالح كركر بعد ثلث قرن من السجون والمنافي قضى منها ثماني عشرة سنة كاملة في الإقامة الجبرية بقرار جائر من وزير داخلية فرنسا الأسبق شارل باسكوا بعد صفقة بينه وبين النظام البائد تقتضي ترحيل كركر إلى تونس مقابل توفير ملجأ تونسي أمين لإبن باسكوا المحكوم عليه في قضايا فساد بفرنسا. وقد ترافقنا أنا والشيخ صالح وعشرات من مقاومي الاستبداد في باريس ولندن وتأثرت كما تأثر التونسيون بعودة الشيخ صالح على كرسي نقال بعد إصابته منذ سنوات بجلطة أعاقت حركته وألزمته الفراش. وأنا كغيري ممن عرف الشيخ نتضرع للعلي القدير أن يشفيه ويعافيه وأن ينفع به وطنه وأمته وأن يجازيه عن شعبه أوفى الجزاء. فالحمد لله على السلامة وعلى نعمة الحياة وعلى الصبر عند البلاء فإن الله لا يبتلي من المؤمنين إلا من يختارهم ويصطفيهم وأنت منهم. علاقتي بك يا شيخ صالح طريفة ونادرة لأني حين كنت مسؤولا في حزب بورقيبة الدستوري في بداية الثمانينيات أسمع باسمك ضمن من يعتبرهم الزعيم "إخوانجية" ونعتبرهم نحن الدستوريين المتعلقين بالهوية والملتفين حول محمد مزالي شركاء في الوطن بل نلتقي معهم في التعريب والأسلمة وصيانة الحريات. وأسعدني أن ذكر بهذه المعاني الدكتور حمودة بن سلامة في شهادته على منبر مؤسسة التميمي الجامعية حين انتهى إلى الخلاصة الصادقة التالية: "لقد تم عزل مزالي من رئاسة الحكومة واضطهاده لأنه تحاور سرا مع الإسلاميين وكان يعمل من أجل الاعتراف بحركتهم وإدراجهم في مشروع "دمقرطة الحياة السياسية".  وأنا ذكرت في كتابي الصادر سنة 2005 (ذكريات من السلطة إلى المنفى) الذي نشر في حضرة السلطان الجائر لا بعد رحيله بأن سعيدة ساسي "سيدة القصر آنذاك ودمية الطاغوت والجهل" سحبتني من يدي منتصف نهار الثالث من أغسطس سنة 1986 في قصر المرمر بالمنستير وكنت جالسا وراء خالها بورقيبة بالضبط مدعوا لحفلة من الحفلات التي كان الزعيم يقيمها بمناسبة عيد ميلاده بعد شهر من إقالة صديقي محمد مزالي طيب الله ثراه وقالت لي سعيدة بلهجتها السوقية: "اسمع يا سي أحمد خالي قضى طول عمره يقاوم الإخوانجية وصاحبك (تقصد مزالي) يحب يعطيهم الحكم". كانت هذه الرسالة كافية لكي نبدأ رحلة المنفى لأن وراءها ومن أوحى بها لسعيدة ساسي "النجم الصاعد زين العابدين بن علي" الذي شرع يدبر المناورات الكبرى التي أدت بتونس إلى السابع من نوفمبر. وفي مغامرات عجيبة قصصت بعضها في كتابي "انتقلنا إلى منفانا من جنيف إلى فرنكفورت" ثم "إلى مستقرنا الطويل والأمين باريس". وهنا التقينا بثلة من المضطهدين الصامدين لا يتجاوز عددهم العشرة منهم الدستوريون والوزراء السابقون أمثال أحمد بن صالح وأحمد بنور والطاهر بلخوجة وعلي السعيدي الذي "مات" مقتولا بعد ذلك في ظروف غامضة بتونس ومنهم اليساريون أمثال منذر صفر ومنهم الإسلاميون أمثال الشيخ صالح كركر والحبيب المكني ورؤوف بولعابي ومنهم بعض الشباب الغاضب والرافض للقهر أمثال عبدالعزيز العقوبي والمازري الحداد وسليم بقة ومنهم من سبقونا للمنفى أمثال المناضل القومي محمد الشابي والمحامي محمد بكار والمهندس الأول المنصف ثريا. وجئنا أنا ومحمد مزالي في صيف 1986 لتكتمل صورة هؤلاء الرواد لمقاومة العسف والتنديد بالاستبداد وكانت تونس لا تزال تحت سحر اللحظة التي فصلت ما بين بورقيبة الذي خرف وانهار عهده وبين ابن علي الذي وعد بغد أفضل تحول بسرعة إلى سراب وكومة هشيم ثم إلى كابوس وانتهى بثورة الكرامة يوم 14 يناير 2010. وأذكر لقاءاتنا العديدة في شقة محمد مزالي (5 شارع فرساي بباريس) مع الشيخ راشد الغنوشي حين كان يسمح له بتأشيرة من لندن إلى باريس فنسهر معا صحبة الشيخ صالح كركر والحبيب المكني ورؤوف بولعابي ورضا إدريس ويلتحق بنا الصديق أحمد بن صالح فنخطط معا لمقاومة الطاغوت يجمع بيننا جميعا سوط الملاحقات وسيف انتهاك أعراضنا في صفحات الجريدي وعبدالوهاب عبدالله ويجمع بيننا أكثر من ذلك الإيمان بأن تونس يمكنها أن تكون أفضل وأروع وأسلم. واكتشفنا أنا وأحمد بن صالح ومحمد مزالي أن الشيخ صالح وطني معتدل في منهج الإصلاح يتقبل الرأي المخالف بلطف في التعبير مصحوب بحزم في المبادئ وصلابة في مناهضة الباطل. وبدا لنا بأن الشيخ صالح عكس ما يتصوره البعض إنما هو رجل وفاق ورجل عمل مخطط ومنظم ولعل ذلك ثمرة تخصصه الجامعي في التخطيط والإحصاء. وفوجئت بعد بعض لقاءاتنا بأيام باستدعاء أبلغه لي عون أمن فرنسي أحتفظ به إلى اليوم يدعوني لمقر المخابرات الفرنسية (إدارة الأمن الداخلي) لمقابلة المحافظ السيد (كارفان). ولم تكن تلك المرة الأولى التي أزور فيها ذلك المقر بالدائرة الخامسة عشرة بباريس إذ سبق أن استدعيت بعد مداخلة قدمتها في فضاء (البورجيه) في مؤتمر الجمعيات الإسلامية بأوروبا وتكلمت فيها عن الخلافة والشريعة والعنصرية. ذهبت في الموعد وأنا متخوف من مؤامرات النظام التونسي فإذا بالتحقيق يتركز على صالح كركر وما إذا كان هو الذي يتزعم جناحا عسكريا لحركة النهضة فأكدت للمحافظ (كارفان) أن الرجل مسلم معتدل ومسالم وأن النهضة حركة ثقافية وسياسية مدنية ولا تنادي بعنف أو انقلاب. ثم علمنا أن الشيخ صالح مهدد بإرساله إلى تونس وبعد تدخلات عديدة تم إيداعه الإقامة الجبرية دون أي محاكمة. ورحلت أنا إلى ملجأي الثاني الأمين في الدوحة واستمر عذاب الشيخ من إقامة إلى إقامة جعل الله كل تضحياته في ميزان حسناته وهنيئا له ولنا عودته محفوفا بأهله ورفاقه إلى أرض تونس التي ضحى من أجلها كأروع وأصدق ما تكون التضحيات.