17 سبتمبر 2025

تسجيل

العرب والنموذج التنموي التركي

27 يونيو 2011

تقدم تركيا نموذجا فريدا من نوعه يعكس مدى التغير الذي طال البنية الاقتصادية والسياسية للمجتمع التركي الذي ظل لسنوات طويلة متأرجحا بين العالمين المتقدم والنامي من الناحية الاقتصادية، وما بين النظام الليبرالي والعسكري من الناحية السياسية. ما الذي حدث في تركيا خلال السنوات العشر الماضية حتى يتحقق كل هذا التقدم الاقتصادي والسياسي؟ هل هو التحدي الذي وضعها فيه الاتحاد الأوروبي؟ أم هو أردوغان أو أتاتورك القرن الحادي والعشرين؟ ربما تكمن الإجابة في أكثر من سبب، إلا أن الأكيد هو أن تركيا أصبحت نموذجا لبلدان الغرب والشرق على حد سواء، ففي الغرب ما زال العديد من بلدان أوروبا الشرقية يتخبط في مصاعبه وأزماته الاقتصادية، وذلك رغم مرور عشرين عاما على سقوط جدار برلين، ورغم انضمام معظم هذه البلدان للاتحاد الأوروبي، أما في الشرق فحدث ولا حرج، حيث البطالة والفساد وتدني مستويات المعيشة، بما في ذلك الدولتين الغنيتين بالنفط على حدود تركيا الشرقية. ولكن لندع الأرقام تتحدث عن نفسها، فحصة الفرد من الدخل القومي تضاعفت من سبعة آلاف دولار في عام 2001 إلى 14 ألف دولار في عام 2011، أما الصادرات التركية، فقد تضاعفت أكثر من مرتين لتصل إلى 114 مليار دولار تقريبا في العام الماضي 2010، مقابل 36 مليار دولار في عام 2002 في الوقت الذي حققت فيه تركيا خلال السنوات الماضية نسب نمو تُعَد واحدة من أعلى معدلات النمو في العالم. في المقابل انخفض معدل ارتفاع أسعار المستهلك (Consumer price inflation) من 73% في عام 2001 إلى 4% في العام الحالي 2011، كما أن الإصلاحات المالية والنقدية أدت إلى تثبيت سعر صرف الليرة التركية لتتحرك في نطاق ضيق تجاه اليورو والذي يعادل ليرتين تركيتين في المتوسط، وذلك بعد أن كان التضخم ينهش في العملة التركية والتي كانت" توزن" بدلا من عدها عند الشراء والبيع، كما هو حال بعض العملات العربية والتومان الإيراني في الوقت الحاضر، علما بان اليورو أصبح عملة متداولة حتى في البقالات والمطاعم، شأنه في ذلك شأن الليرة التركية، وذلك في محاولة لتثبيت وضع تركيا، كدولة من دولة منطقة اليورو ضمن معاهدة "ماستريخت" للعملة الأوروبية. وبجانب هذه الإصلاحات الاقتصادية استجابت تركيا لمعظم مطالب الاتحاد الأوروبي التشريعية، فعمدت في السنوات العشر الأخيرة إلى إحداث تغيرات شاملة في النظام القضائي، وتطبيق النظام الانتخابي النسبي لأول مرة في الانتخابات التشريعية التي جرت الأسبوع الماضي، مما أدى إلى منح الأقلية الكردية المزيد من صلاحيات الحكم الذاتي، وفي الوقت نفسه تم إبعاد المؤسسة العسكرية تماما عن السياسية، وتجنيب البلاد الانقلابات المتكررة في العقود الثلاثة السابقة، ووفر لتركيا استقرارا سياسيا مهما للنمو الاقتصادي. لذلك، فإن تركيا تكون بذلك قد وضعت رجليها على قضبان سكة القطار الأوروبي، بغض النظر عن موقف تحالف ساركوزي – ميركل اليميني، فالمصالح هي التي ستحدد في نهاية المطاف عضوية تركيا في الاتحاد الأوروبي، فإذا ما قارنا في هذا الصدد بين عضوية بعض بلدان أوروبا الشرقية والتي تحولت إلى عبء أو عالة على الاتحاد، فإن عضوية تركيا بقوتها الاقتصادية وتأثيرها السياسي وموقعها الاستراتيجي ستشكل قوة إضافية كبيرة للاتحاد الأوروبي وستمنحه ثقلا استراتيجيا عالميا إضافيا، وهو ما يدركه سياسيو أوروبا المعتدلون. وفي هذا الجانب، تشكل السوق التركية الكبيرة وعاءً مهما للصادرات الأوروبية، وبالأخص مع ارتفاع مستويات المعيشة في تركيا، كما أن إمدادات الطاقة الأوروبية القادمة من الشرق، بما فيها أنابيب الغاز والطاقة الشمسية في المستقبل سوف يمر معظمها من خلال بلاد الأناضول. أما بالنسبة لبلدان الشرق، وبالأخص العربية منها، فإن التجربة التركية يمكن أن تشكل نموذجا تنمويا يحتذى به، خصوصا وأن أوضاع العديد منها مشابه تماما لأوضاع تركيا ما قبل الإصلاحات التي قفزت بتركيا خطوات للأمام ووضعتها ضمن مجموعة العشرين التي تسيِّر الاقتصاد العالمي. ربما تكون الظروف في البلدان العربية مهيأة أكثر مع مرحلة ما يسمى بالربيع العربي، والذي لا يمكن أن يكون ربيعا حقيقيا من دون تحقيقه للنجاح الاقتصادي الذي يؤثر في حياة الناس المعيشية، وهو المطلب الأساس للاحتجاجات في البلدان العربية، حيث ستكون السنوات القادمة ستكشف الجدوى الحقيقية للربيع العربي.