14 سبتمبر 2025
تسجيلالذكريات من النعم التي أنعم الله بها على عباده، فالله قد وهب الإنسان العقل وبه جُزء تختزن به ذكرياته التي عاشها من صغره إلى يومه هذا. وكل إنسان منَّا مرَّ عليه رمضان بعدد سنين عمره، ويحتفظ بذكريات جميلة لذلك الشهر في شبابه وصغره، تلك الذكريات لا ينساها أبدًا مهما مرت عليه السنين وتقدم به العمر؛ لأنها تحمل أجمل أوقات العمر. فكان يأتي رمضان والأسرة مجتمعة بكاملها كبيرها وصغيرها لا ينقصها أحد، الأب والأم والأخوات معنا يشجعاننا على الصيام، كنا نجلس جميعًا على مائدة واحدة نتناول إفطارنا، وكان الأب يُعلمنا دعاء الإفطار قبل تناول الطعام ونتناول منه التمر والأم تجلس تتفقد كلًّا منا وترعاه في طعامه. ما أجملها أيام! مملؤة بالحنان والحب والمودة، تُظلها رحمة الله وغفرانه في رمضان، كان الأب يصطحب أبناءه في صلاة التراويح والأم تجلس طوال الليل لا نسمع إلا دعواتها لنا بكل الخير والتوفيق، والله لولا دعوات أمهاتنا ما كنا كما كنا اليوم، اللهم ارحم من مات منهم واحفظ أمهاتنا وآبائنا بحفظك الجميل يا الله. كانت الأخوات وهن صغيرات ينتظرن الشهر المبارك ليعلقن الزينة والفانوس ويشعرن في ذلك ببهجة لا تُقدَّر بثمن. كان الأهل والأقارب يجنمعون من كل مكان ويأتون إلينا وإن كانوا في بلاد أخرى ،فهم يأتون خصيصًا لقضاء شهر رمضان معهم أو ربما نحن نذهب إليهم، ونجتمع الخال والخالة والعم والعمة كلنا أسرة واحدة نفطر معنا ونصلي معًا في جماعة، ونتنافس في تلاوة القرآن. يشاركنا الجد والجدة الفرحة والصيام والقيام ونفرح بدعواتهم لنا، وهداياهم لنا ليلة العيد. أيام جميلة وذكريات أجمل، تغيرت تلك الذكريات مع مرور الأيام والسنين قلَّ عدد الأسرة وأصبحت المائدة مكونة من فردين أو ثلاثة، بعد أن كنا نتزاحم ونلتصق بعضنا في بعض لنتخذ مكانا في الجلوس. فارقنا الأحباب والأجداد وانتقلوا إلى دار أخرى يشاركوننا بأرواحهم الطوافة حولنا وذكرياتهم العالقة بالذهن التي لا يزعزعها مزعزع أبدًا. بُعد الأهل عن بعضهم، والكل اقتصر على حاله وأسرته الصغيرة، قَلَّت الزيارات والمكالمات وجهلنا معالم وجوهنا، فإذا التقينا صدفة اندهش كل منا لحال الآخر كيف تبدَّل وتغيَّر. ربما هذه الذكريات رغم جمالها وعلوقها بالذهن إلا أنها تترك شرخًا في قلوبنا وأثرًا من الحزن والألم، فربما تذكرنا أحد أبوينا أو كليهما وقد فقدناهم هذا العام وأصبحت المائدة خالية بدونهم لا حنان فيها. وربما تذكرنا أحد إخواننا الذي استشهد في العام الماضي ولم يكن معنا هذا العام، أو تذكرنا جارنا المسن الذي كنا نسعد به في مرورنا صباحا ومساء ونعطيه من طعامنا ونحظى بدعواته الصائبة لنا. شعور مؤلم قد يهتك قلوبنا حزنًا على فراق الأحباب وبُعد الأقارب والأصحاب، ولكن كل أمر وله حكمته من الله، ولكل أجلٍ كتاب، وهذا قضاء الله وسنته في الحياة، فاللهم لا اعتراض. ولكن أخي الكريم لا تترك اليأس يتغلغل في قلبك وينسيك فضل الشهر الكريم واغتنام فرصه، فهيا قم وانهض واجعل لكل ذكرى تذكرتَها ثوابا اتخذت عليه أجرًا، فإذا تذكرت من تُوفي فاذهب وتصدق له بصدقة يفرح بها في قبره ويسعد بك ويعلم أنك ما زلت تذكره، هيا تصدق لوالديك ولخالك وعمك. وكن ذكيا في صدقتك، فاجعلها صدقة جارية تنفعه إلى يوم الحساب، وذلك بأن تتبرع لأحد المستشفيات بكرسي أو سرير، أو ربما بنيت له مسجدًا، أو ربما اعتمرت له بعمرة ووهبت ثوابها له. وإن لم يكن معك ما تنفق به فلك في الدعاء أجر كبير ولهم أيضا فيه الخير والرحمة والغفران. وذلك كما قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «إِذَا مَاتَ الْإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ: مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ». فكن أنت الولد الصالح الذي تدعو له. أخي الكريم، كن معتبرًا من ذلك في حياتك، فهؤلاء قد فارقوك وانقطعت أعمالهم، وأنت مَن تحاول أن تُكمِل لهم أعمالا تنفعهم بعد موتهم، فانهض أنت واستغلَّ رمضانك هذا واعمل فيه ما استطعت من الأعمال الصالحات، فلا تدري هل سيعود عليك رمضان القادم أم سيكون هذا آخر رمضان لك، فانهض واغتنم واعمل بكل قوتك لترضي الله، وادع الله من الخير كله ما تذكرت، ولا تضيع دقيقة واحدة في الشهر المبارك إلا حققتَ بها هدفًا في رضا الله وابتغاء وجهه الكريم، هيا انهض واعبد ربك حق عبادته.