15 سبتمبر 2025

تسجيل

استماتة في ماذا؟

27 أبريل 2017

googletag.display('div-gpt-ad-794208208682177705-3'); googletag.cmd.push(function() { googletag.display('div-gpt-ad-1462884583408-0'); }); وصلني من عدد من الأصدقاء والأقارب، عبر واتساب، كليب فيديو يحوي صورا لسيدة سوداء، تشتعل النيران في جسدها، ويحاول بعض المارة إنقاذها، وكان الكلام المصاحب للصورة، يقول إن تلك السيدة، تقدمت بطلب إلى السلطات البلجيكية، لنيل رخصة لإقامة محل تجاري في وسط مدينة لكسمبورج، وعندما رفضت السلطات الطلب، وقفت في شارع رئيسي وأشعلت النار في ملابسها. أما التعليق المصاحب للصورة المتداولة أيضا عبر الانترنت على نطاق واسع، باللغة العربية، فيقول: انظروا كيف يستميت الناس دفاعا عن حقوقهم، بينما نحن نعيش في ذل وهوان، وندعو بالخير لمن أذاقونا الذل والهوان.لم أتأثر بمشهد المرأة والنيران تلتهم ملابسها ولحمها، لأنه كان من السهل عليَّ إدراك أن الصورة مفبركة ومركبة (هل انتبهت إلى أن "واتساب" على وزن "اغتياب" وأن فيها بعض عناصر الوسوسة، ولهذا صارت ناقلا للنميمة والأخبار المفبركة؟)؟ ودعوني أشرح لكم لماذا أنا مقتنع بأن اللقطات تلك مفبركة: منذ متى صارت لكسمبورج بلجيكية؟ ومن ثم، لماذا لم تفكر تلك السيدة في الانتحار في بلجيكا، حيث تم حرمانها من الرخصة التجارية؟ ثم هب أنها كانت صورة حقيقية لتلك المرأة: ما الذي يحملني على التعاطف مع إنسان أخرق يتصرف بطفولية بلهاء، ويعتقد أن حركة الكون ستتوقف إذا انتحر في مكان عام؟ وهل انتحارها حرقا سيكفل لها الحصول على الرخصة؟ وهل السلطات البلجيكية او اللكسمبورجية ملزمة بمنح رخصة تجارية لكل من يطلبها؟دعك — عزيزي القارئ — من كل هذا، ولنتوقف عند التعليق المصاحب لتلك الصور والذي يتضمن إشادة وإعجابا بإشعال تلك المرأة النار في جسمها: "كيف يستميت الناس دفاعا عن حقوقهم"!! هل الحصول على رخصة بفتح محل تجاري في موقع معين، "حق" يجب أن تكفله الحكومات والقوانين؟ ثم لماذا الإشادة بالاستماتة (وهي كلمة مشتقة من الموت)؟ في أبو ظبي ظللت محروما من رخصة قيادة السيارة لشهور عديدة، لأن رجال المرور كانوا يتفننون في اكتشاف أخطاء في طريقتي في سوق السيارة، رغم أنني كنت وقتها أحسب نفسي مؤهلا حتى لقيادة دبابة! هل كان الإجراء الصحيح أن أقف عند النافورة العملاقة في كورنيش أبو ظبي، وأشعل النار في جسمي أو أقفز إلى مياه الخليج، كي أحصل على تلك الرخصة، التي كنت مقتنعا بأنني أستحقها منذ الاختبار الأول؟بيننا كثيرون يعتبرون القاتل بطلا، والقتيل بطلا، وهكذا فإن تلك المرأة التي شرعت في الانتحار في شارع مزدحم (بافتراض أن المحاولة والصور التي شاهدتها لها كانت حقيقية) صارت رمزا للاستماتة في الدفاع عن الحقوق! يذكرني ذلك بحماقات يرتكبها الأطفال لتسجيل "مواقف"، أي من باب الاحتجاج، أذكر أنني رفضت الطعام أكثر من مرة في طفولتي وصباي، كوسيلة لـ"معاقبة" أمي أو أبي لأن طلباتي قوبلت بالرفض، وأذكر أن أمي كانت تحاول المرة بعد الأخرى إقناعي بتناول الطعام فازداد عنادا، فتنصرف عني، ثم يقرص الجوع أمعائي حتى أتلوى من الألم، وأعيش على أمل ان أمي ستكرر محاولة اقناعي بتناول الطعام، ولكن هيهات.كان ذلك زمان كان الناس يأكلون فيه كل ما يوضع أمامهم لعدم وجود ثلاجات، ولم تكن "كرامتي" تسمح لي باستجداء أمي لتعد لي طعاما بديلا لذاك الذي رفضته، فاضطر الى المناورة والمداورة حتى أحصل (سراً) على بضع تمرات أو خبز حاف جاف، أسكت به العقارب التي تنهش بطني، وقد توقف عيالي في سن مبكرة، عن ممارسات تلك التكتيكات، لأنه لو رفض الواحد منهم وجبة من باب الاحتجاج على أمر ما، فإنني لم أكن أكتفي بسياسة "التجاهل" كما كانت تفعل أمي، بل أبلغه بأنه محروم من الوجبة التالية أيضا، وممنوع من الاقتراب من الثلاجة.