15 سبتمبر 2025

تسجيل

رحيل شاعر محترم فقده الفقراء

27 أبريل 2015

عرفت الشاعر عبد الرحمن الأبنودى في الدوحة. عندما كان يأتي ضيفا على نادي الجسرة. وبالذات في عصره الذهبي عندما كان يتولى رئاسة مجلس إدارته يوسف درويش. وهو نوعية نادرة من البشر الذين يجيدون التعامل مع المبدعين والمفكرين والمتميزين. فقد كان يدرك الخواص التي يتسم بها الراحل العظيم الذي غادرنا يوم الثلاثاء الماضي. وهو ما دعاه إلى استضافته غير مرة ليمتع جمهور قطر بإبداعه وقصائده القديمة الجديدة. المكتوبة باللهجة العامية المضمخة بعطر الفصحى. وبصور وخيالات نابعة من طين الأرض ومن عرِق البشر. ومن أوجاع الوطن والأمة. وفي لغة شديدة التكثيف والشاعرية. وقادرة على اختراق وجدان وعقل وقلب المتلقي. فأحبه الجميع سواء أكانوا من أصحاب الياقات البيضاء والقبعات أو من الطبقة المتوسطة أو من المعدمين والمعذبين في الدنيا. لم يكن يوسف درويش. الذي أضفى على الواقع الثقافي في قطر حيوية استثنائية على علاقة خاصة بالأبنودي. لكنه بحكم ما يمتلكه من موهبة في تقدير المتميزين من رجالات الأمة في كافة المجالات. كان يستضيفه وغيره من الشعراء والمفكرين والبارزين في مجالات الفكر والسياسة وحتى العسكرية. فقد استضاف القائد المصري الذي تولى مهمة إعادة بناء الجيش بعد هزيمة يونيو 1967 الفريق أول محمد فوزى والذي شرفت بإجراء حوار خاص معه. بصحبة الصديقين الراحلين الشاعر حسن توفيق والصحفي سيد أحمد. وعندما غادر درويش موقعه في نادي الجسرة وتولى منصب رئاسة تحرير الزميلة الراية في نهاية عقد التسعينيات من القرن الفائت. أحدث نقلة نوعية في أدائها التحريري وأعادها إلى صدارة المشهد الصحفي وتعامل بنفس المنهجية المتمثلة في تقدير من يعمل معه والدفع بالموهوبين واكتشاف مناطق جديدة في الصحافة المحلية. ولم يكن يتورع عن استشارة من يمتلكون الخبرة. كل في مجاله. لذلك يمكن ملاحظة الفروق بين زمن دوريش في الراية وأزمنة غيره . ولا أسرد ذلك من باب المديح في الرجل ولكن اتصالا بكتابتي عن الشاعر الأبنودي. فبعد أن غادرت الدوحة عائدا إلى القاهرة في نهاية أبريل من العام 2008. كلفني بالقيام بمهمة تشبه مهمة مدير التحرير في مكتب الجريدة بالقاهرة. وقد رفضت بشدة طلبه وطلب الصديق بابكر عيسى مدير التحرير آنذاك. أن أتولى رئاسة المكتب احتراما لقيمي في عدم القفز على مواقع الآخرين. فضلا عن عدم مواءمة ذلك مع عملي بجريدة الأهرام محررا للشؤون العربية. وقد فوجئت به - أي درويش - يتصل بي. ليكلفني بإجراء حوار مع الراحل عبد الرحمن الأبنودي خاصة أنه عاد لتوه من رحلة علاجية بالخارج. وهو ما وفرلي لقاءً مباشرا مع هذا الشاعر الاستثنائى. في تاريخ الحركة الشعرية العربية. وفاجأني بأنه يتذكرني عندما كنت أجلس اليه في الدوحة. وأتحدث معه بصفة عامة خاصة أن كلينا من جنوب مصر فهو من محافظة قنا. التي كانت محافظتي قبل أن تستقل عنها محافظة الأقصر التي أنتمي إليها. وهناك في المدينة البعيدة عن القاهرة - الإسماعيلية -التي أمره الأطباء بالإقامة فيها. بحكم أجوائها الخالية من التلوث العنيف الذي تتسم به عاصمة المحروسة مراعاة لأحواله الصحية. استقبلني الرجل -وكانت معي زميلة صحافية -بحفاوة الجنوبي في مكتبه العامر بالكتب والمراجع التي لاتتوقف عند دواوين الشعر وكتب الأدب. ولكنها تحتوي الكثير من المعارف في الفكر والفلسفة فضلا عن قواميس اللغة العربية وغيرها من اللغات. كان المكتب غرفة ضخمة ضمن فيلا. تتوسط مزرعة واسعة اشتراها الأبنودي من ماله الخاص وليس هبة من أحد. فقد كان يتميز بعزة نفس نادرة متأصلة فيه من نشأته في صعيد المحروسة. وصحبني بعد الحوار ليشرح لي مكونات المزرعة خاصة أشجار المانجو السامقة التي حرص على زراعتها بكثافة. فضلا عن أنواع أخرى من النبات والخضر والشجر. متكئا على عصاه. مسكونا بالحيوية التي تتدفق منه كلمات ومفردات خاصة به لاتخرج إلا من الأبنودي. مازجا بين اللهجة الجنوبية ولهجة القاهرة التي يجيدها بأفضل من أهلها. وهو ما يتجلى في مفردات أغانية العاطفية والوطنية التي تغنى بها كبار المطربين والمطربات. وما زالت تمثل حتى الآن المرجع الأهم في التعبير عن الوطن وعن مشاعر الإنسان. في هذا اللقاء الذي استمر لأكثر من أربع ساعات . وأصر على أن نتناول معه الغداء الذي أعده خصيصا لنا. سألته عن أشياء كثيرة في تجربته الشعرية والأدبية والإنسانية وعلاقاته بالسلطة وهى إشكالية ما زالت تبحث عن إجابة بحكم ما تنطوي عليه من تعقيد والتباس نتيجة عدم استيعاب السلطة لطبيعة الشاعر والمبدع والمفكر ولكن الأبنودي نأى بنفسه عن السلطة. ولم يعتبر نفسه جزءًا منها ولعل تجربته مع سلطة الزعيم الراحل جمال عبد الناصر مفجر وقائد ثورة الثالث والعشرين من يوليو 1952 تمثل بالنسبة لي أنموذجا واضحا للموضوعية فالأبنودي تعرض للسجن في خلال حكم عبد الناصر وفي واحد من أسوأ السجون – الواحات- ولكنه تناسى كل أوجاعه الخاصة -كما أكدلي - عندما أدرك أن عبد الناصر. أخذ في مقاربة أشواقه وأحلامه خاصة فيما يتعلق بالانحياز للفقراء والعدالة الاجتماعية ومقاومة الاستعمار والإيمان بالقومية العربية. فأعلن بدوره الانحياز له ولمشروعه الوطني والقومي. من خلال المساهمة بكتابة الأغاني التي تعبر عن المرحلة. وقام بأدائها على أحسن ما يكون الأداء الراحل العظيم عبد الحليم حافظ. وتماهى الأبنودي مع مشروع السد العالي. وكتب في ذلك أشهر قصائده التي جسدت هذه الملحمة التاريخية. التي خاضها الشعب المصري بقيادة ناصر فضلا عن الكثير من الأغاني التي طالت مختلف مفردات المشهد الوطني. في هذا اللقاء حكى لي عن أوجاعه الخاصة والعامة. وكم أدركت آنذاك أن الأبنودي زاخر بالإبداع المبهر والمدهش. فضلا عن تجذره ثقافيا وفكريا وارتباطه بقاع المجتمع. فلم يقفز على انتمائه الاجتماعي بعد أن أضحى جزءًا من النخبة الثقافية المتميزة في العاصمة ونجما يشع بهاءً وشعرا. فظل وفيا للفقراء. مجاله الحيوي الوحيد. فدافع عنهم بقوة تحدى بها السلطة. خاصة في عصر مبارك الذي بلغت فيه الاستهانة بهم حدا لم تبلغه أي مرحلة تاريخية في المحروسة. بعد أن باع القطاع العام وأعلن تخلي الدولة عن السياسات الصحية والتعليمية والاجتماعية التي توظف من أجل هؤلاء البشر. فانتشروا في العشوائيات والمقابر وأطراف المدن. وما يسمى بعزب الصفيح على نحو شديد الفجيعة. لذلك توهجت أشعاره بأشواقهم في الخبز والحرية والعدالة. وهى الشعارات التي كانت عناوين رئيسة لثورة الخامس والعشرين من يناير والتي كتب من أجلها عدة قصائد أهمها قصيدة الميدان والتي كان الثوار يحفظونها ويرتلونها وتلهبهم حماستها وزادتهم إصرارا على موقفهم المطالب برحيل مبارك خاصة مقطع "أن الآون ترحلى يادولة العواجيز ". وفي اللقاء مع الأبنودي لم اكتفِ بالحصول على إجابات ضافية على أسئلتي العامة فأوغلت معه عن حياته وزواجه وأصدقائه ورد بصراحة لكني لست في حل من نشر ما قاله خاصة أن حديثه أصابني بقدر من الصدمة بالذات فيما يتصل ببعض أصدقائه الذين بكوه بحرقة عند رحيله . والذين لم يضمروا له خيرا وهو ما اكتشفه. غير أنه لم يشأ أن يصارحهم فبقي حريصا على الصداقة. وكثيرا مافتح لهؤلاء البعض أبواب منزله سواء في القاهرة أو في الإسماعيلية إن الأبنودي كما قال عنه غير كاتب ومتابع لمسيرته هو مزيج بين الصراحة الشديدة والغموض الجميل، بين الفن والفلسفة، بين غاية التعقيد وقمة البساطة، بين مكر الفلاح وشهامة الصعيدي، بين ثقافة المفكرين وطيبة البسطاء.. هو السهل الممتنع، الذي ظن البعض - وبعض الظن إثم - أن تقليده سهل وتكراره ممكن". رحمه الله