28 أكتوبر 2025
تسجيليمكن اعتبار مدينة معان الجنوبية في الأردن قصة فشل لكل الحكومات الأردنية، فهذه المدينة سجلت 3 انتفاضات كبيرة خلال ربع قرن، الأولى عام 1989 عندما انتفض المعانيون ضد الفقر والبطالة ورفع الأسعار والشظف والإهمال، والثانية عام 1996 عندما ثاروا لنفس الأسباب، لتثور مجددا الآن في 2014، وبين هذه الأحداث الكبيرة عدد من الاحتجاجات الصغيرة.مرجع فشل الحكومات الأردنية المتتالية يعود إلى إهمال معان التي يحب فلاسفة النظام أن يطلقوا عليها وصف "المناطق الأقل حظا"، وفي الحقيقة أنها لم تعرف الحظ يوما ولا عرف طريقه إليها، مما أغرقها، بل ومحافظة معان كلها، وهي الأكبر في الأردن من حيث المساحة الجغرافية، في الفقر والفاقة وضيق اليد، دون تطبيق أي إستراتيجية للارتقاء بها وانتشالها مما هي فيه.للإنصاف، جرت بعض المحاولات المتأخرة جدا للإصلاح، ولكن دون جدوى، فبقيت معان غارقة في الفقر، رغم الخطط الوهمية والوعود والتنظير، مما جعلها تثور في نهاية الثمانينيات، وكانت السبب في إعادة الديمقراطية إلى الأردن عندما أقدم الملك الراحل حسين بن طلال على إقالة حكومة زيد الرفاعي، وإبعاد "صديقه" عن الواجهة وإخراجه من المشهد لتهدئة الأمور هناك، وسمح بإجراء أول انتخابات ديمقراطية حقيقية.كان المنتظر أن تتم العناية بمدينة معان المهملة، ومعها كل المناطق الأقل حظا، ولكن للأسف فإن سياسة الإهمال استمرت، ولم يقبض أهل هذه المناطق إلا "الريح" والوعود والاستقبالات الجوفاء، فكان من الطبيعي أن تثور مرة ثالثة كما يحدث الآن، ولكن هذه المرة وخلافا لما قام به الملك حسين عام 89 عندما أقال الحكومة مباشرة وتفاعل مع التغيرات على الأرض، فإن الحكومة الحالية تتعامل مع الوضع بطريقة بائسة تفتقر للمهنية والحرفية السياسية وفهم الخارطة الاجتماعية والتبدل في المزاج الجماهيري، وبدلا من الاعتراف بمطالب الناس، استعار وزير الداخلية في حكومة الدكتور عبد الله النسور مصطلحات بن علي ومبارك والقذافي وصالح والأسد لوصف ما يجري مثل "الخارجون على القانون" و"مثيرو البلبلة" و"المطلوبون أمنيا" وتوعد المدينة بـ"حل أمني نوعي" ونسب إليه التهديد بحصار المدينة وهو ما تم نفيه، مما ألهب الوضع، وحوَّل المظاهرات إلى مواجهات مسلحة وتم استهداف كل المباني الأمنية وبعض الدوائر الحكومية في المدينة، ورفع الناس مطالبهم من تغيير الحكام المحليين إلى المطالبة بإقالة وزير الداخلية والحكومة كلها، وهو ما سيحدث لا محالة.التهديد بـ"حل أمني نوعي"، حول الحكومة إلى خصم لأهالي معان، فالشعب الأردني يقوم على بنية عشائرية أقوى من أي حكومة، وهذا ما دفع نائبا ينتمي إلى عشيرة كبيرة، هو غازي الفايز، إلى المبادرة بمحاولة حول الأزمة في معان "عشائريا" مع وجهاء الأردن، والذهاب إلى معان في "جاهة" لوقف الاشتباكات بين الدرك والأهالي، فالفايز يعلم، كما يعلم وزير الداخلية، أنه لن يستطيع حسم مواجهة عسكريا مع معان التي تحولت من "مدينة إلى عشائر" بعد التهديد بالحل الأمني النوعي، فالعشيرة أقوى من الحكومة والوزارات والمؤسسات مجتمعة، وشيخ عشيرة قادر على أن يفعل ما لا تستطيع أن تفعله الدولة، وهذا ما يعلمه وزير الداخلية الأردني حسين المجالي، فهو ابن عشيرة كبيرة ويعلم أن شيخا واحدا في عشيرته يحكم ويرسم أكثر من الحكومة بكل وزرائها ووزاراتها وأكثر من كل الأجهزة الأمنية مجتمعة. الأردن بلد جميل، والأردن شعب جميل وطيب، وأهل معان صبروا على ما لم يصبر عليه أحد ومن حقهم وحق أهالي الطفيلة والغور والمفرق أن يودعوا الفقر والبطالة وهذا لا يحتاج إلى "حل أمني نوعي"، بل يحتاج إلى دولة تخدم مواطنيها.