17 سبتمبر 2025

تسجيل

فقه العزة والنصر

27 مارس 2024

توقفنا في المقال السابق عند ما سميته «فقه الهزيمة»، وكيف أنه من أبرز تداعيات انفصالنا عن فكرنا الإسلامي الصحيح. ومن أخطر تمثلات فقه الهزيمة، مثالا لا حصرا، تصدر من يُسمون أنفسهم شيوخا وفقهاء، ممن اختارهم «المستعمر العالمي» على عينه، لممارسة التخذيل عن الجهاد، والترهيب من قول كلمة الحق، والترغيب بحياة الهوان والفقر، والتبرير لكل ما لا يمكن تبريره من مظاهر الضعف والاستكانة، بل والتشكيك في كل الثوابت. والأخطر، التعامل مع نتائج الهزيمة وكأنها أمر لا مفر منه ويجب التعايش معه إلى ما لا نهاية؛ بوضع القواعد وتقنين القوانين لاستمراره ومعايشته. وأبرز مثال على التخذيل عن الجهاد والنقاط السابقة هو كلام ذلك الشخص الذي ظهر قبل فترة وهو يرتدي مسوح الشيوخ يدعو المقاومة في غزة إلى «الجهاد بالسنن»، والذي أثار سخرية وغضب الكثير من أبناء الأمة الذين ما زال لديهم حس ديني سليم. لكن هناك مثالا آخر، على رغم بساطته، ربما يختذل الأمر كله، ويظهر مدى الضعف البنيوي والفقهي الذي أصاب الأمة. وتلك هي مسألة انتشار المصلين المرضى والمعاقين، الذين يحتاجون للجلوس على مقاعد، وسط صفوف المصلين، وتقنين كثير من الفقهاء لهذا الوضع. وأحسب أنها باتت ظاهرة يجب أن ينظر إليها على أنها من مصائب الأمة. فقد بات كثير من هؤلاء يكسرون انتظام الصفوف في أي مكان منها حتى ولو خلف الإمام مباشرة، وهذه مشكلة خطيرة، لكن تظل المشكلة الأخطر، أن نرى كثيرا من الشيوخ والمفتين يتصدرون لتقنين الظاهرة وإيجاد القواعد التي تؤدي لاستمرارها بل واستفحالها. فقد وجدنا شيوخا ينخرطون في توضيح مكان وضع المقعد في الصف يمينا أو يسارا، متقدما عن الصف أو متأخرا عنه، وهكذا، ناسين أو متناسين أن كل هذا لا يعبر إلا عن وضع الضعف والهزيمة، ومتجاهلين علاج أصل المشكلة والمشاكل الحقيقية للأمة. فبدلا من أن يكون المصلون في صلاتهم كالبنيان المرصوص، لا تفصل بينهم الفجوات، نجد ذلك الوضع. مع أنه لا يضر أصحاب الأعذار أن توضع لهم مقاعد في آخر الصفوف، أو على الأجناب، مثلما أنه لا يضر أفراد الطبابة أو جنود الإمدادات، ولا يقلل من دورهم، وجودهم في مؤخرة الجيش. ونسي هؤلاء المُفتون أن هذه الحالة لا تعكس إلا وضع شعوب أمة مريضة وعاجزة ومحطمة. ففي وقت تخلو المساجد أحيانا من المصلين تماما، نجد كثيرا من المصلين من العواجيز والمرضى بينما شبابهم في الملاهي والطرقات يتسكعون. وفي وقت باشرت «صناعة الكفر» إفساد وتسميم الغذاء والدواء وحتى الهواء، كان الأولى بهؤلاء الفقهاء أن يحثوا الناس على تنظيم مطعمهم ومشربهم حتى يكونوا أصحاء أسوياء لأن صفوف الصلاة، في حقيقتها، لا تختلف كثيرا عن صفوف القتال، ولا يوجد جيش يضع في صفوفه مقاتلين عجزة أو مقعدين. ولما اعوجت صفوف الصلاة ووهنت وخربت اعوجت صفوف القتال ووهنت واندثرت. بل إن صفوف الصلاة هي مدرسة التنظيم والإعداد لكل نصر وخير. وهنا أشير مجددا إلى فقه عمر بن الخطاب عندما كان يتفقد الجند فرأى أحدهم وقد برزت بطنه فزجره، موضحا أن هذا ليس من صفات المؤمنين؛ أيام كان الرجال جنودا يقاتلون وينتصرون وهم في الخمسين والستين وفوق ذلك. وقد يقول البعض وما الضرر؟ بل الضرر كبير وخطير على صورة الأمة في المخيلة العامة والأهم في نظر العدو الذي يفرحه ويريح باله أن يرى أمة مضعضعة كسيرة كسيحة لا تستطيع أن تقيم صفا واحدا سويا في صلاتها فما بالك في قتال؟ بل الخطر والضرر الأكبر أن تتحول المساجد إلى ما يشبه الكنائس من كثرة المقاعد فيها. ومن ظن أن في ذلك شططا فليتذكر «جحر الضب»، وأن المسلمين، مثلا، لم يكونوا يحتفلون بالكريسماس قبل عقود قليلة. ولعلي أرى الحاجة ملحة لتفعيل ما أسميه «فقه العزة والنصر»، ضمن مشروع نهضة فكرية إسلامية، يلحظ أولا أننا محتلون، إلا قليلا، من قبل قوى «الاستخراب العالمي»، وأن علينا أن نتبنى «فقه التحرر والقوة»، بمساعدة مَنْ تبقى من فقهاء ومفكرين واعين مخلصين، بعدما اختفت في العقود الأخيرة مشاريع النهضة العربية والإسلامية التي كانت تُطرح حتى أواخر القرن الماضي، أيام المفكرين الكبار الذين كان من آخرهم، مالك بن نبي، ومحمد عابد الجابري، على سبيل المثال لا الحصر. فتلك المشاريع الفكرية برغم ما عليها من تحفظات وما تعرضت له من انتقادات، كانت تعبر عن استمرار إرادة التغيير ولو على المستوى الشعبي الذي يعكسه المفكر. أما الآن فالواضح أن أبواب التغيير الإيجابي قد أغلقت تماما. ولم تعد هناك فرصة لطرح أي مشروع فكري نهضوي، لا عربيا ولا إسلاميا. ولم نعد نرى سوى دعوات «تجديد الخطاب الديني»، التي لا تهدف إلا إلى إفراغ الدين من مضمونه، والتي يقودها المستعمر، وتنفذها أذرعه، ضمن صناعته للكفر، والسبب مرة أخرى أننا ممنوعون من التغيير ومن التقدم بأمر من يريدون إبقاءنا في سجن التخلف والضعف، ويصرحون بذلك علانية بين الحين والآخر. كلمة أخيرة: في هذا المشهد المؤلم تبدو غزة الثقب الوحيد الذي يلوح منه الأمل للأمة للهروب من ذلك السجن الكبير، أو الخرق الذي يظن الكثيرون أنه سيغرق السفينة لكنه طوق النجاة الأخير، الذي يذكرنا بأننا مسلمون. لكننا هنا مضطرون أن نسأل ثانية: هل نحن حقا مسلمون؟