17 سبتمبر 2025

تسجيل

"الوجه والقناع" في الحياة والشعر

27 فبراير 2014

يعرف الذين يشاركون في الحفلات التنكرية أن عليهم أن يخفوا شخصياتهم الحقيقية عن الآخرين، بل عن أقرب الناس إليهم.. فقد ترتدي سيدة ثرية ملابس خادمة، وتتقنع بقناع يجعلها في هيئة بائسة زرية، وقد تكون طبيعة إنسانة أخرى طبيعة غائصة في الوحل والثرى، لكنها ترتدي قناعا باهرا وساحرا يجعلها في هيئة من تتعالى إلى النجوم والثريا في السماء، وصاحب القلب الطيب قد يرتدي قناع إنسان شرير، تنبئ ملامحه عن الإجرام المتأصل.. وهكذا.. ولكن في خاتمة تلك الحفلات التنكرية يعود كل إنسان من المشاركين فيها إلى طبيعته المعتادة وشخصيته المألوفة بعد أن يخلع القناع الذي يضعه على وجهه. ومن أجمل القصص القصيرة العالمية في هذا المجال قصة لعملاق هذا الفن – أنطون تشيخوف، والقصة بعنوان "القناع" وهي ضمن قصص المجلد الأول من أعماله الكاملة.هذا بعض ما يحدث في الحفلات التنكرية.أما في الحياة ذاتها، فإن هناك بعض النماذج البشرية التي يطيب لأصحابها – لأسباب متعددة ومختلفة – أن يضعوا أقنعة تغير من طباعهم وسلوكياتهم أو تداري تلك الطباع والسلوكيات.. فهناك من يكره الآخرون في أعماقه ولا يحب أحدا غير نفسه المريضة، لكنه يرتدي أمام الآخرين ممن يجهلون أعماقه الحقيقية، قناع الطيبة والنقاء لكي يخفي به ما في أعماقه الخفية التي لو اتضحت للآخرين لأدركوا أنه أقرب إلى الشيطان.. وهناك من يخدع الآخرين لوقت طويل بفضل براءته في ارتداء قناع الفضيلة والسمو الرقة، بينما هو – في واقع الأمر – إنسان له نزواته وعلاقاته المريبة وتصرفاته القبيحة، ومثل هذا الإنسان يظل أمام الآخرين إنسانا فاضلا وساميا ونقيا، إلى أن يكتشف واحد من الآخرين أو عدد منهم حقيقة هذا الإنسان الذي خدعهم لوقت طويل.يتوقف على سرعة أو بطء اكتشاف حقيقة الإنسان الذي يرتدي قناع الخداع مدى ذكاء ودهاء هذا الإنسان أو مدى تبلده وغبائه، فهناك إنسان يظل يخدع الآخرين سنوات عديدة، وهناك من لا يستطيع أن يخدع الآخرين إلا لفترة قصيرة، وسرعان ما يفتضح أمره وينكشف سره.. وهناك أدباء يتغلغلون في أعماق النفس البشرية، حتى لو كانوا لم يقرأوا أبداً أي كتاب علمي من كتب علم النفس، وهناك من الأدباء من تبدو معرفتهم بالنفس البشرية سطحية.. الطراز الأول من الأدباء يكتشف أعماق الآخرين بسرعة.. أما الطراز الثاني منهم فإنه لا يستطيع أن يكتشف تلك الأعماق، وحتى حين يكتشف فإنه يبدو مندهشا، وتنعكس هذه الدهشة على كتاباته.وفي شعرنا العربي الحديث كتب كثيرون من النقاد، عن ظاهرة الوجه والقناع، وذلك من خلال تحليلهم لقصائد من شعر بدر شاكر السياب وعبد الوهاب البياتي وصلاح عبدالصبور.هؤلاء الشعراء الكبار استخدموا القناع باعتباره أداة فنية موفقة، فقد يتحدثون بضمير المخاطب أو بضمير الغائب عن تجارب ذاتية، سواء كانت شخصيات حقيقية أو أسطورية ليعبروا من خلالها عما يجيش بأعماقهم هم، وعلى سبيل المثال فإن لعبد الوهاب البياتي قصائد عديدة، تبدو وكأنها تصور أعماق المتنبي أو المعري أو عمر الخيام، لكنها – في حقيقة الأمر- تصور أعماق عبدالوهاب البياتي نفسه.وهناك السندباد الذي يبدو في قصائد عديدة من شعر صلاح عبدالصبور، فصلاح عبدالصبور لا يقصد أن يرسم صورا شعرية للسندباد بقدر ما يقصد أن يصور أعماقه هو ولكن من خلال شخصية السندباد، وعلى ضوء هذا اصطلح كثيرون من النقاد على تسمية هذه النماذج الشعرية بأنها الوجه والقناع.