15 سبتمبر 2025

تسجيل

ماوراء الأكمة الإفريقية

27 فبراير 2013

بعد عقود من غياب القارة السمراء عن واجهة الأحداث تعود إفريقيا بقوة إلى صدر الشاشات والصحف والمواقع الإلكترونية وقاعات إدارة الأزمات في وزارات الدفاع والخارجية والمخابرات في كل من باريس وواشنطن ولندن وموسكو وبيكين وعواصم أخرى مثل طهران وأنقرة و...تل أبيب. في ظرف شهر واحد انتقل مركز الهزات والزلازل من المشارق إلى المغارب وتحول من دائرة الصراع الدائر بين حلف الناتو وما ينعته الحلف بالإرهاب في أفغانستان وباكستان والعراق إلى صحراء إفريقيا الشمالية على تخوم الجزائر وليبيا ومصر ومالي والنيجر حين شرعت القوات الفرنسية في حربها على متمردي مالي والتحقت بها اليوم قوات أمريكية استقرت في النيجر مكتفية إلى حد الساعة بتقديم عون لوجستي استعلاماتي يتمثل في الطائرات الشهيرة من دون طيار (الدرون) حتى أن إحدى المجلات الأميركية نشرت منذ أيام رسما كاريكاتوريا تقارن فيه بين شهيد المساواة مارتن لوثر كينغ الذي قال (أنا أحمل حلما " أي هاف أ دريم) وبين الرئيس باراك أوباما الذي قال في الرسم (أنا أحمل طائرة بلا طيار أي هاف أ درون). وهو لعب ذكي على عبارتي دريم ودرون. يأتي كل ذلك على خلفية بيانات عسكرية فرنسية متواترة تقول بأن بقاء القوات الفرنسية سوف يستمر إلى غاية "القضاء على الجهاديين وقمع حركات التمرد لدى قبائل الطوارق ومنع تقسيم جمهورية مالي..". هذه هي اليوم الأهداف المعلنة للتدخل العسكري في مالي وغدا في النيجر وربما ستتواصل الحملة على نيجيريا من أجل "القضاء على بوكو حرام" وعلى الصومال بغاية ضرب جماعات الشباب الإسلامي! ولهذه العمليات لدى مراكز البحث الإستراتيجية الغربية تفاسير متنوعة لكنها تتفق على أن التواجد العسكري الفرنسي الأمريكي في المنطقة سوف يحاول تطويق التوسع الميداني لتنظيم القاعدة ويحد من حلقات الترابط والتواصل بين أجزائها الهلامية الضبابية المتناسلة من أرحام الأزمات الإفريقية بتعقيداتها القبلية والدينية والمصلحية. فالقارة الإفريقية أصبحت تعج بالصينيين خبراء وتجارا ومهندسين ومستثمرين وصناعيين وجواسيس باحثين عن مصادر الطاقة واليورانيوم وحتى....الماء منذ أن أصبح الماء هو محور الأزمات الإقليمية الخطيرة. فإفريقيا تشكل ذخيرة المستقبل في المجالات الحيوية بعد قرب نفاذ هذه الذخائر الطبيعية في الغرب ويبدو أن سياسات الدول الغربية أصبحت استباقية لا تعير أهمية للمحاذير القانونية الدولية ولا لسلامة الشعوب المستضعفة إذا ما تعلق الأمر بطاقة معدنية يحتاجها الغرب أو بثروة طبيعية نادرة يتزاحم حولها الغرب مع منافسيه الإثنين الأكبر: روسيا والصين. أنا لا أتصور أن التدخل الفرنسي سيكون محدودا أو أنه يخضع لأجندة أهداف واضحة وجدول انسحاب مبرمج من أجل تسويق الحرب للرأي العام الفرنسي والغربي عموما فالجيش الفرنسي فقد أحد جنوده يوم الخميس الماضي وهو أول ضحية سال دمه على رمال الصحراء وتبين أن الجيش الفرنسي يحتاج لسند أطلسي جربه الجيش الأمريكي في أفغانستان وباكستان وحتى اليمن (طائرات الاستطلاع المسماة الدرون) التي لا تزج بالطيارين في المعارك بل تكتفي بتسيير إلكتروني من الأرض وعن بعد آلاف الكيلومترات. ثم إن التقارير الإستراتيجية التي انطلق منها التدخل الفرنسي تقول بأن تنظيم القاعدة الذي كان محدودا في أفغانستان يوم 11 سبتمبر 2001 أصبح تنظيما مدولا (أي تم تدويله) وعابرا للقارات ومتعددة الجنسيات تماما كالشركات الأمريكية العملاقة أمثال (جينرال موتورز) و(أبل) ولا تنفع مقاومة القاعدة بتفريعاتها الأخطبوطية في بلاد واحدة بل إن الحرب ضدها عالمية أو لا تكون حسب العقيدة العسكرية الأمريكية أو الفرنسية الجديدة. اليوم تبدو حرب الرمال الجديدة بالخلفيات التي ذكرناها حربا إقليمية ولكنها تنذر بحرب عالمية متدرجة تنقل مركز الزلازل السياسية من الكوريتين (الشمالية والجنوبية) ومن بحر اليابان وكذلك من الشرق الأوسط والأقصى إلى البؤرة الأكثر تأهلا لهذا الصراع الخطير المعلن أي إلى صحراء إفريقيا وعلينا إذن أن لا نغفل نحن العرب عن المخاطر التي تهددنا اليوم لأن اشتباكنا واشتراكنا في الحدود وفي المصائر مع مالي والنيجر سيجعل من أوطاننا فضاءات مفتوحة لمرور ولتكديس الأسلحة كما لا ننسى أننا نعيش لحظة تاريخية فارقة بعد الهزات التي زعزعت أوضاعا قديمة جائرة وعجزت عن تأسيس دول جديدة عادلة في كل من مصر وتونس وليبيا (و بأنماط مختلفة في الجزائر وموريتانيا والمغرب) وهي جيعا بلدان شمال إفريقية تحدها كلها نفس الصحراء الإفريقية. إن لعبة الأمم القوية والنافذة تحط رحالها عندنا بأشكالها التقليدية المعروفة كالتواجد العسكري المباشر(مالي والنيجر نموذجا) وبأشكالها المبتكرة المجهولة كالمخططات الاستخبارية من اغتيالات (ربما قضية شكري بلعيد في تونس نموذجا إذا ما تم التوصل للحقيقة) ومؤامرات (قضية العصيان المدني في مصر نموذجا) ومخططات تقسيم وتفكيك (قضية جنوب السودان نموذجا) وخلق مناخات التأزم المستديم (الوضع في ليبيا نموذجا) وتأجيج الحروب الأهلية الطويلة مع تحويلها إلى صراعات طائفية لضمان استمرارها (سوريا والعراق نموذجين دموويين). ثم إن ملف النووي الإيراني يبقى هو الهدف المسكوت عنه على رقعة الشطرنج المأساوية الراهنة. هذه هي نذر التدافع الدولي المرير الذي نأمل بسذاجتنا العربية التاريخية المعهودة ألا نكون وقوده وحطبه وضحاياه في المستقبل المنظور ولله الأمر من قبل ومن بعد.