13 سبتمبر 2025
تسجيللا أحد ينكر أن نوعا من العنف غير المبرر صاحب في بعض الأحيان تحولات الشعوب العربية والإسلامية من الاستبداد إلى الديمقراطية فظاهرة فقدان البوصلة رافقت كل الثورات بل وحرفت مساراتها من الرشد إلى الضلال ويكون ذلك بأيدينا نحن دون أن نغض الطرف عن أياد عدوة لا يرضيها ما ينفعنا إذا رأت فيه تهديدا لمنافعها. تلك قاعدة العلاقات الدولية شئنا أم أبينا.بعد أن حاول الإرهاب تشكيل منظوماته في تونس ومصر وليبيا واليمن وسوريا أصبحنا نتعامل بوضوح وشفافية مع هذه الظواهر الخطيرة لنحلل أسبابها الدفينة ونعالج مضاعفاتها العديدة. ولعل القاسم المشترك بين تفجير كنائس مصرية والإعداد لبث العنف في تونس وتسريب السلاح من ليبيا إلى تونس وقتل الأبرياء في سوريا واليمن هو ارتداء لبوس الدين كتبرير لما لا مبرر له تماما كالذي حدث منذ سنوات في باريس ولندن ومدريد وبدأ يتأكد الغرب من هوية مقترفيه أي أولئك الشباب المولودون في فرنسا وبريطانيا من أصل عربي أو باكستاني، والذين تلقوا تعليمهم في مدارس أوروبا وتشربوا ثقافتها واكتسبوا تقاليدها، وبشهادة كل من عرفوا هؤلاء أو درسوهم أو رافقوهم فإنهم لا يثيرون الريبة والشك بل وجد الإعلاميون الغربيون حتى من أثنى على أخلاقهم وسلوكهم كشباب عاديين يندمجون في المجتمع الغربي بلا أية إشكالية لا حضارية ولا لغوية ولا اجتماعية!بدأ المفكرون الغربيون في بريطانيا وفرنسا وسائر بلدان أوروبا يتساءلون في حيرة من أمرهم: من أين جاء هذا البلاء الجديد؟ ومن أي باب مفتوح دخل هذا الغول المجهول؟ وكيف نفهم هذه الظاهرة الطارئة؟ وبأي الوسائل نواجه هذا الخطر المحدق؟ وأنا أكتب هذه الخاطرة لقرائي العرب وأنا أمامي سيل من التحليلات العميقة تحملها الصحف الأوروبية كل صباح نقرأ فيها مراجعات مريرة وجريئة للأفكار الجاهزة والقوالب الجامدة والخلفيات الخاطئة التي زرعها اليمين الغربي المتشدد في الأذهان، وساعده في غرسها لدى الرأي العام الغربي أولئك الجهلة المتشنجون ودعاة الفتنة من المسلمين الضالين. هذا اليمين الغربي الذي أعلن عداءه للإسلام والمسلمين بل إن وزير داخلية فرنسا (كلود جيون) صرح منذ أيام بأن الحضارات ليست متساوية وأن بعضها يتفوق عن بعض! وهي العقيدة التي بررت إبادة سكان أمريكا الأصليين والحروب الصليبية والغزوات الاستعمارية وما تزال تبرر تعامل الغرب مع قضايا المسلمين وحقوقهم بأساليبه الفضة الجائرة وقوانينه العنصرية.فهذا الأستاذ فرنسوا جيري رئيس المركز الفرنسي للبحوث الجنائية في جامعة باريس الثالثة يكتب في صحيفة لوموند الفرنسية يقول بأن حرب العراق حين لم يتحكم التحالف من إدارتها بشكل جيد ومتوازن أصبحت المصنع الأخطر للإرهاب بسبب الفوضى الكاملة التي حولت العراق إلى مستنقع سياسي واقتصادي وبؤرة للتدريب على العنف بكل أشكاله، وأول مظاهر العنف هي تلك التي شاهدها العالم مندهشا ومنددا حين ظهرت صور العار في سجن أبو غريب ورأى العالم والعرب كيف يدخل جنود المارينز إلى مسجد الفلوجة ويقتلون جريحا أعزل للإجهاز عليه دون أن يهدد هذا المسكين أحدا. ويضيف هذا الباحث الأكاديمي الفرنسي قائلا: "إن سياسة إذلال الشعوب والدوس على حقوق الإنسان مهما تزينت بشعارات مقاومة الإرهاب ستظل السبب الأساس لتبرير هذا الإرهاب الذي نقاومه، ولا أجدى من إقرار مبادئ العدل الدولي في مجال العلاقات بين الدول وبين الأمم لا إلغاء الأخلاق في التعاطي مع الحضارات المختلفة بدعوى أن الغرب يواجه الإرهاب! وإذا لم يسترجع الغرب نواميس العلاقات الدولية العادلة بين الأغنياء والفقراء فنحن معرضون للإرهاب الذي يولد من رحم الظلم والبؤس والإذلال. ولا يعتقدن أحد أنه في مأمن أمين من انتحاري مستعد لدفع الثمن بحياته دون تردد!وفي صحيفة لوفيجارو يكتب أحد المتخصصين في الشرق الأوسط الباحث في المعهد الفرنسي للعلاقات الدولية والاستراتيجية الزميل الدكتور علي العايدي صاحب كتاب(الجهاد في أوروبا وأسرار الحرب الاقتصادية) فيقول إن ظاهرة الإرهاب الجديد نشأت يوم 9\11\1989 أي مع انهيار القطب السوفييتي الشيوعي فتحول الصدام بين غرب رأسمالي وشرق اشتراكي إلى صدام بين غرب منتصر بعقيدته الليبرالية الديمقراطية وشرق مازال يعاني التخلف والفقر ويصر على الاحتفاظ بهوياته وتراثه ومعالم ثقافته لأن هذه الموروثات الحضارية هي كل ما بقي له لتأكيد وجوده بعد أن أوصدت الدول الغربية الغنية أبوابها في وجه شبابه بغلق الحدود وإقامة السدود ومواصلة التأييد المطلق لأعداء العرب والمسلمين من دون ضوابط، بينما يرفع الغرب شعارات الشرق الأوسط الكبير وضرورة إدماجه في دورة التاريخ الحديث وهو يمعن في تكثيف الحواجز وإقامة الجدران العازلة لجعل هذا الشرق الأوسط في الحقيقة محتشدا كبيرا والإمعان في السيطرة على قيمه وثقافته وطريقة حياته!وظاهرة عزل الشرق الإسلامي في محتشد فكري وجغرافي اهتدى إليها وحللها مفكرون أمريكان أمثال عالم السياسة \جامس روسنو الذي فضح داء التضارب بين العولمة الداعية لفتح الحدود وبين التقوقع الوطني الجالب للمزيد من عزل الشرق، وكذلك زميله المفكر الأمريكي\ بنجامين باربر الذي فكك آليات الجهاد الجديد ضد الماك وورلد أي عالم الماك الأمريكي ذي الاتجاه الواحد، ودعا إلى تصور عالم أوفر عدلا وأقل ظلما وأكثر تضامنا بين الغرب القوي والشرق الحائر، وإلا فالإرهاب سيتعزز لأن العلاج الأمني الصرف لا يحل المشكلة ولا يستأصل العنف من الجذور.أرجو ألا يعتقد القارئ الكريم بأني أضع كل الوزر على عمى الغرب بل أنا أنقل آراء الغربيين أنفسهم في الجزء من المسؤولية التي يتحملونها، ولكن الجزء الآخر من الانحراف يتحمله دعاة الجهالة العلمانية والجاهلية التغريبية من المسلمين الذين تطرفوا في مقاومة هوية أمتهم وزينوا للشباب طريق الانسلاخ عن مقومات الأصالة، بينما أعظم صحوة تنتظرها الأمة هي انطلاق حداثتها من صلب هويتها لا استعارة الحداثة من الغرب كثوب (فريب أي مستعمل) مع المصالحة التاريخية بين التراث والعصر.