12 سبتمبر 2025

تسجيل

تونس الحمراء

27 يناير 2011

هل كان الشاعر التونسي الشاب أبو القاسم الشابي يعلم عندما قال قصيدته المشهورة "إرادة الحياة" والتي يقول في مطلعها : (إذا الشعب يوماً أراد الحياة.. فلا بد أن يستجيب القدر، ولابد لليل أن ينجلي.. ولا بد للقيد أن ينكسر)، هل كان أبو القاسم يعلم بأن كلماته ستتردد في أنحاء تونس والعالم العربي بعد وفاته بعشرات السنين ؟ ربما لو علم بذلك وقتها لخففت عنه تلك الفرحة شيئاً من أوجاع قلبه وآلام مرضه الذي لازمه طيلة حياته والذي جعله يعاني طويلاً حتى فارق الحياة وهو في ريعان شبابه (ولد في 1909م الموافق 1327 هـ وتوفي في 1934م الموافق 1353 هـ) وكان يبلغ من العمر خمسة وعشرين عاماً تقريباً. خمسة وعشرون عاماً هي مدة بقائه وعمره في هذه الحياة، إنها مدة قصيرة جداً عانى فيها كثيراً من مرضه ولكنه لم يستسلم لذلك المرض الذي تحكم في جسده فأبدع ونظم القصائد وساهم في الشعر العربي بإبداعاته حتى أصبح علماً لا ينساه التاريخ ولا الناس، وهاهو الشعب التونسي كذلك يحذو حذوه وينتصر على ذلك المرض الذي ينتشر في جزء من جسد الأمة العربية والذي كان ولا يزال يقاومه بكرات دمه البيضاء.. حتى إذا عجزت البيضاء عن مقاومة المرض فلابد إذن من أن تساندها الكرات الحمراء وتضخ المزيد من الدماء من أجل أن يتحرر الجسد !!. إنها تونس الخضراء.. وهو الوصف الذي يليق بها في أيام الصفاء والرخاء، ولا يليق بها الآن.. إلا أن نقول "تونس الحمراء".. احتراماً لدماء شهدائها الذين سكبوا دماءهم الطاهرة على أرضها، لقد صنعت تونس مجدها بدم أبنائها وشبابها الثائر الذي أبى أن يسكت طويلاً كغيره خانعاً وخائفاً في وجه من يحرمه من لقمة عيشه.. وفي وجه من يحرمه من عبادة ربه قبل ذلك وفوق ذلك كله. لا أدري هل هي المصادفة أم القدر الذي جعل لون علم تونس يصطبغ باللون الأحمر أكثر من اللون الأبيض فيه، هل في ذلك إشارة إلى أن تاريخ تونس سيرتبط كثيراً بلون الدم الذي سكبه شعبها ولا يزالون من أجل تحرير بلادهم من كل طاغوت يحكم بغير ما أنزل الله، ولا أدري كذلك هل هي المصادفة أم القدر الذي جعل تونس تقود عصر العلم في الماضي فتنشأ أول جامعة عربية وإسلامية عريقة هي جامعة الزيتونة وجامعها الشهير، كي تصدّر العلم لطلاب العالم العربي والإسلامي وتقود بذلك نهضة العلم، فهل هي مصادفة أخرى أنها اليوم تقود نهضة الحرية وتتصدّر الدول العربية في التغيير والإصلاح وتسبق الكثير من الدول التي نسمع لها جعجعة ولا نرى طحناً.. حقيقة لقد أذهلتنا وأفرحتنا ثورة الشعب التونسي الكريم على طغيان حاكمه واستبداده به من بعد أن سلبه إرادتين.. إرادة العيش والسعي وراء لقمة العيش الكريم.. وإرادة العبادة لله عز وجل، لقد حرم "زين العابدين" شعبه تلك الإرادة، فاستحق أن يحرمه شعبه متعة البقاء في كرسي الحكم، وأن يضرب في الوقت نفسه أعظم مثال لمن يثور من أجل دينه في وجه من يريد أن يكون ذنباً للاستعمار، ففرنسا المعادية للإسلام تقف وراءه طيلة حكمه وتسانده في أن يكون "عوناً" لها في القضاء على منابع التدين ومظاهر العبادة لله عز وجل، ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون. إن من يقف في وجه حرية الناس ويحول بين عبادة الناس لربهم والخضوع له سبحانه، إنما مصيره الهلاك لا محالة، لأن الله تعالى قادر على أن ينصر المظلوم متى وكيفما شاء سبحانه، فالله يمهل للظالم ولكن لا يهمله، ومن أحسن من قصة فرعون مثالاً يُضرب في مثل هذا الموقف.. ولكن بعض الطغاة والظلمة لا يقرأون التاريخ ولا ينظرون للواقع فيعرفون أن من يقف في وجه هذا الدين سيهلك وسيزول لا محالة. لا أعرف لماذا لا يقرأ بعض الظلمة التاريخ المقروء في الكتب أو المُشاهد في الواقع ليعلموا ويوقنوا بأن ظلم الناس مهما تعددت أشكاله وأنواعه فإنه لن يجلب لهم إلا السوء في الدنيا والآخرة، وأن النهايات التاريخية التي يأملونها لنهاية حكمهم لن تكون " وردية " كما يتوقعون، فهذا شاه إيران قضى عمره " خادماً " للولايات المتحدة الأمريكية ومنفذاً لسياساتها التي ترمي وقتها للقضاء على مظاهر الإسلام في إيران من رفع للأذان وإقامة للصلاة فقام بمحاربة ذلك طيلة حياته وفترة حكمه حتى إذا ثارت ثورة الناس عليه وكادوا يصلون إليه، حتى فرّ هارباً يبحث عن مأوى يستضيفه، فكانت " صفعة قوية " في وجهه بأن رفضت الولايات المتحدة بقاءه فيها، فلجأ إلى مصر حيث قضى بقية حياته بائساً يائساً.. ويتكرر السيناريو نفسه ويعيد التاريخ أحداثه.. فهاهي فرنسا الداعمة لحكم زين العابدين وسياسته التي تحارب التديّن وتضيّق على الناس عبادتهم لربهم.. ترفض وبكل قوة أن تستضيفه على أراضيها ولا حتى أقاربه وبقية أهله وكأنها تتبرأ منه بكل وضوح بعد أن " انتهى كرته " ونفذ ما كان مطلوباً منه في تكوين جبهة مناهضة للإسلام في هذا الجزء من العالم العربي والإسلامي. إذا كان من المخطط له أن تستورد تونس من فرنسا.. لغتها وعلمانيتها وكافة مساوئها، فإنه ومن غير المخطط له أن يستورد الشعب التونسي فكرة الثورة الفرنسية وأن يثور الفقراء والبؤساء على واقعهم المرير، فكما كتب الكاتب الفرنسي فيكتور هوجو رواية " البؤساء " تجسيداً ووصفاً لواقع الظلم الاجتماعي وقتها بفرنسا، يكتب شعب تونس الحرية الآن لنفسه.. ويختار الثورة على واقعه ويشق طريق الحرية بدماء الشهداء. إن من الغريب فعلاً أن يستنكر الزعيم الليبي معمر القذافي هذه الثورة الشعبية وهو الذي كتب كتابه الأخضر مدافعاً عن الثورة الشعبية ومروجاً لها، بل ويلوم الشعب التونسي على فعلته تلك، ويبكي على أطلال الرئيس السابق زين العابدين، بينما لم يحرّك ساكناً عندما فعل صاحبه ما فعل في تونس منذ عقود من الزمن، بل ويعدد أمجاد النظام السابق في حين أنه لم يعدد جريمة واحدة من جرائمه تجاه شعبه. إن صفحات التاريخ تتقلب بسرعة.. وقلم الأحداث مازال يكتب الشرف والعزة للأحرار الذين حررهم الإسلام من عبودية الطواغيت، ويكتب الذل والخزي والعار لمن اختاروا طريق العبودية لغير الله، فهل من متعظ وهل من مستوعب لهذا المشهد قبل أن ترفع الأقلام وتطوى الصحف؟!.