11 سبتمبر 2025

تسجيل

ياليتني متّ قبل هذا

13 أغسطس 2015

من قال تلك المقولة ؟! إنها مريم عليها السلام، ومتى قالتها؟! عندما جاءها المخاض أي "الطلق" وأعراض الولادة وهي تحمل عيسى عليه السلام في بطنها، قالتها بعد أن استسلمت لأمر الله تعالى " قال كذلكِ قال ربكِ هو عليّ هيّن، ولنجعله آيةً للناس ورحمة منّا وكان أمراً مقضيا" عندما أخبرها جبريل عليه السلام الروح الأمين والمَلَكُ العظيم الذي وكّل بالوحي وبكل أمر عظيم من الله تعالى، فلم يكن هناك بدٌّ لها من الاستسلام والإيمان المطلق لأمر الله تعالى بعد قوله "وكان أمراً مقضيا" وهكذا شأن المؤمنين الذين ليس لهم الخيرة من أمرهم شيئاً عندما يأتي أمر الله إلا القبول والتسليم المطلق.. وكذلك فعل إبراهيم عليه السلام عندما أُمر بقتل ابنه اسماعيل عليه السلام وكذلك فعل نوح عليه السلام عندما أُمر بصنع السفية وحمل كل من آمن معه ومن أزواج الطيور والحيوانات، وكذلك فعل لوط عليه السلام عندما أُمر بالخروج من قريته وعدم الالتفات خلفه وترك امرأته مع قومه يصيبها ما أصابهم.. وهكذا فعل كل الأنبياء والصالحين من عباد الله المؤمنين المنقادين لأمر الله تعالى. "ياليتني متّ قبل هذا"... قالتها مريم عليها السلام في ذلك الموقف العصيب والمحنة الكبرى التي تعرّضت لها وهي تخشى على نفسها وتفكّر في تلك اللحظة العصيبة والفتنة العظيمة التي ستواجه بها قومها عندما تأتيهم بمولود صغير دون أن يمسسها بشرّ ولم تك بغيّاً وإنما كانت مثالاً للطهر والتقوى والعبادة يُضرب إلى يوم القيامة.. قالتها مريم عليها السلام رغم أنها تنفذ أمر الله تعالى ورغم أنها حُبلى بنبي كريم مرسل، فهو روح الله وكلمته ألقاها إلى بني إسرائيل، فهو ليس بجنين عادي ولا مولود طبيعي وإنما آية من آيات الله العظمى في هذا الكون، وبالرغم من كل ذلّك... قالتها وكان الموقف أشد عليها وأقسى عندما أُمرت أيضاً بعدم الحديث مع قومها وعدم النطق بكلمة واحدة لتبرير موقفها! إذ أن العقل البشري سينادي بأعلى صوته صارخاً ومتعلّقاً بالأسباب "وكيف تدافع عن نفسها بدون أن تتكلم؟!" فتأتي المعجزة الأخرى تباعاً للمعجزة الأولى من رب السماوات والأرض وخالق كل شيء ومسبب الأسباب.. فيتكلم المولود في مهده "قال إني عبدالله آتاني الكتاب وجعلني نبياً، وجعلني مباركاً أينما كنت وأوصاني بالصلاة والزكاة مادمت حيّاً، وبرّاً بوالدتي ولم يجعلني جباراً شقياً". إذاً، فتلك مقولةُ من آمنت بكلمة الله وأسلمت له وأذعنت لذلك الأمر السماوي! فكيف بمن عصى الله تعالى ويرتكب الذنوب تلو الذنوب يوماً بعد آخر.. وهو في غفلة من أمره.. حتى إذا هداه الله وتاب عليه واستذكر ماضيه ومعاصيه وذاق طعم الندم والحسرة واعتصر قلبه ألماً وندماً على ما مضى من أيام وسنوات ضاعت من عمره في غير مرضاة الله؟!، فكيف بمن يعيش بقيّة حياته وهو يستذكر ماضيه وذنوبه ومعاصيه ويقول في نفسه "كيف ألقى الله بهذه المعاصي والذنوب والسيئات؟!"، ياله من موقف عظيم يتساقط فيه لحم الوجوه خجلاً وخوفاً من الله تعالى بعد أن يقف المرء بين يدي خالقه وهو يحاسبه على كل صغيرة وكبيرة فعلها في حياته.. بل على كل مثقال ذرة من خير أو شر! إنه لن يواجه قومه كما واجهت مريم عليها السلام قومها في موقف عصيب.. وإنما سيواجه الله تعالى في موقف أشدّ هولاً منه.. كما أنه لن يأتي كما أتت مريم عليها السلام وهي تحمل عيسى عليه السلام بين ذراعيها.. وإنما سيأتي بذنوب كالجبال يحملها فوق ظهره. إذا كانت تلك مقولة الطاهرة المطهّرة المؤمنة العابدة " ياليتني مت قبل هذا" فماذا سيقول من زنى وفعل الفواحش؟! وماذا ستقول من زنت أو حملت سفاحاً؟! وماذا سيقول من ترك الصلاة عمداً؟ً وماذا سيقول من منع الزكاة؟! وماذا سيقول من شرب الخمر وارتكب المحرّمات؟! وماذا سيقول من كذب وخان الأمانة والعهد أو اغتاب وخاض في أعراض إخوانه؟! وماذا سيقول من قتل نفساً مؤمنة عمداً بغير حق؟! وماذا سيقول من آذى المؤمنين بلسانه ويده؟! حين نلقى الله بذنوبنا أجمعين.. ويحاسبنا فرادى! ياله من موقف عصيب تشيب له الولدان ويتمنى المرء لو كان ترابا، حين يلقى الله كلَ مسؤول يحمل أوزار رعيّته الذين ضيّعهم، وحين يلقى الله كل راعٍ ليُسأل عن رعيّته، وحين يلقى الله كل عبد فيُسأل عن عمره وشبابه وماله وعلمه.. ماذا فعل بهم جميعاً؟! إذا كانت تلك مقولة مريم عليها السلام الطاهرة المطهّرة التي خضعت لأوامر الله وصدّقت بكلمات ربها وكانت من القانتين حينما أرادت أن تضع عيسى عليه السلام وقد تمنّت في تلك اللحظة العصيبة الموت على أن تلقى قومها وخشيت أن يقذفونها بالفاحشة وأن تواجههم في ذلك الموقف العصيب وتلك الفتنة العظيمة، وكما أشار العلماء بأنها حتى في تلك المقولة لم تقلها سخطاً واعتراضاً على قدر الله، وإنما كما أسلفنا خوفاً من ذلك الموقف العظيم وهي بذلك تمنّت الموت كما يقول العلماء عندما يخشى المرء على نفسه الفتنة فإنه يجوز له تمنّي الموت كما فعل علي بن أبي طالب رضي الله عنه لما وقعت له المحن في آخر حياته قال "اللهم توفّني إليك"، وكما قال يوسف عليه السلام "توفّني مسلماً وألحقني بالصالحين" أو كما قال سحرة فرعون بعد أن آمنوا بالله عندما هددهم فرعون بالقتل "ربنا أفرغ علينا صبراً وتوفّنا مسلمين".. إذا كانت تلك مقولة مريم عليها السلام .."ياليتني متّ قبل هذا" فماذا سنقول نحن المذنبون الملطّخون بالسيئات والأدران عندما نتذكر بعد حينٍ ذنوبنا في لحظات الندم والتوبة والعودة إلى الله حينها يتمنى المرء منّا الموت أو يتمنّى أنه لو لم يفعل تلك المعصية أو الذنب أو يتمنّى أنه لو لم يسلم إلا بعد تلك اللحظة.. كما تمنّى أسامة بن زيد رضي الله عنه بعد أن قتل الرجل الذي قال "لا إله إلا الله" ثم تمنّى أنه لو لم يسلم إلا بعد تلك اللحظة كل لا تبدأ محاسبته الفعلية يوم القيامة إلا لحظة دخوله الإسلام. هي ليست دعوة لليأس والقنوط من رحمة الله أو الانتحار والعياذ بالله، وإنما هي لحظة تأمل وتفكَر في آيات الله تعالى وفي القصص القرآني الذي ما ضُرب لنا من باب اللغو حاشا لله تعالى وإنما من باب العظة والعبرة، فهل سنقف وقفات أمام معاصينا وذنوبنا الماضية ونذرف دموع الندم والتوبة عليها؟! وهل ستموت النفس الأمّارة بالسوء في داخلنا ونكبت أنفاسها قبل أن توردنا جهنم في يوم القيامة؟! وهل سنوقظ النفس المطمئنة واللوّامة في داخلنا التي تحضَ صاحبها على فعل الخير حتى تدخله الجنة في يوم القيامة؟! وهل سنقبل على الحياة بروح جديدة بعد تلك الروح التي عاشت في المعاصي والذنوب .. حتى نلقى الله تعالى وهو راضٍ عنا.. نسأله سبحانه أن يغفر لنا وللمسلمين ما مضى ويصلح لنا ما بقي من أعمارنا.. اللهم آمين.