27 أكتوبر 2025

تسجيل

وزير سابق

26 ديسمبر 2014

من الملاحظ أن الكثير من أصحاب الرأي والخبرة والعلم والمعرفة ممن استلموا مهمات قيادية في أوطانهم في مرحلة من المراحل ووصلوا إلى أعلى الهرم الإداري في وزارات ومؤسسات الدولة سواء كانوا وزراء أو وكلاء وزراء أو قضاة أو عمداء كليات أو رؤساء جامعات أو أساتذة تربويين أو إعلاميّين مخضرمين أو رؤساء تحرير وصحفيين محترفين أو علماء أفاضل وغيرهم.. تجدهم عندما كانوا على رأس عملهم كانوا متفانين في أعمالهم ونشطاء في الكثير من الأحداث والفعاليات في المجتمع، وكان لهم نشاط وحضور واضحان بين الناس وفي الإعلام بشكل خاص، وسرعان ما انتقلوا من دائرة الضوء والنشاط إلى دائرة الظلام والفتور، فسرعان ما اختفوا من الإعلام ومن التواجد الفعّال بين الناس ومن الفعاليات والمبادرات المهمة في أوطانهم، كل ذلك لأنهم تركوا (مناصبهم) وفي لحظة واحدة أصبحوا على أعتاب مرحلة أخرى من الانزواء والانطواء والإهمال وبالتالي أصبحوا رهن الإحباط والفشل ومغادرة الحياة والاستعداد للموت.هذه الظاهرة تعاني منها الكثير من الدول العربية والخليجية بشكل عام ولكننا في قطر نعاني منها بشكل لافت وواضح، حيث تختفي تلك القيادات التي كانت تقود وزارات ومؤسسات وكان لها شأن وأثر عظيمان في الكثير من القرارات، فبعد أن كانت شعلة من النشاط وكتلة من الحماس وحزمة من العلاقات إذا بها تخفت وتبهت ويتلاشى بريقها وتغيب في غياهب (الماضي) الذي بدأ مع انتهاء (الوظيفة الرسمية أو المنصب الرسمي) الذي كان يتقلّده في آخر عهده.عندما يترك وزير الوزارة أو رئيس المؤسسة أو عميد الكليّة أو الجامعة أو نحوهم فيذيّل تاريخه الحافل بكلمة (السابق أو الأسبق) بعد أن أمضوا عدة سنوات في مناصبهم تلك – دون الخوض في إنجازاتهم أو إخفاقاتهم أثناء فترة عملهم – فإنهم بعد ذلك يمارسون دوراً (هامشيّا وتقليدياً) في مجتمعاتهم وفي مجتمعنا القطري تحديداً، حيث لا تصبح لديهم أنشطة أو مشاركات رسمية أو شعبية، بل ويتجاوز الأمر إلى مرحلة الغياب الفعلي أو الكلّي واختفاء الحضور الحقيقي في المجتمع. ولا أقصد هنا الحضور الحقيقي أو التواجد العادي كأن يحضر وزير سابق لحفل عرس أو أن يحضر قاضي محكمة سابق أو عميد كلية سابق أو ضابط عسكري سابق إلى وليمة عشاء أو دعوة شخصية لمناسبة اجتماعية.. فالجميع يفعل ذلك، وإنما أقصد الحضور الفعّال الذي ينتج عنه التأثير والمشاركة، فما العيب مثلاً أن يحضر مثل هذه الرموز أو النخب لبعض المحاضرات العامة أو الفعاليات المجتمعية المختلفة وأن يساهموا بتواجدهم في إضفاء نوع من الدعم والتقدير للمنظمين وللبرنامج وللفكرة أو الحدث الذي يحضره، فعلى سبيل المثال: إن حضور رئيس جامعة (سابق) أو عميد كلية (سابق) لمحاضرة ثقافية عامة إنما هو دليل اهتمامه وحضوره ومتابعته ورغبته في المشاركة بتعليق أو شهادة أو رأي أو حفاوة للحضور أو للمنظمين أو مجرد الاستماع إلى معلومة أو فائدة جديدة، فما الضير في ذلك؟! إذ إن الإنسان لا ينبغي أن يقف عند حد معين من العلم والمعرفة والاطلاع، وكلّما ازداد علمه ازداد معرفة بجهله، ولنا في العلماء وفي السلف الصالح خير أسوة وكان ابن عبّاس رضي الله عنه يتواضع – رغم مكانته – أمام كل من يحفظ حديثاً للنبي عليه الصلاة والسلام ولم يكن قد سمعه من قبل فيذهب قاصداً إليه ليتعلّم منه حتى أصبح حبر الأمة بعلمه وتواضعه الذي أوصله لتلك المكانة، ولذا كان ومازال العلماء أشد خشية لله تعالى، لأنهم يزدادون معرفة به سبحانه وتعالى كلما ازداد علمهم وأيقنوا بجهلهم فيما مضى فعدّلوا من أفكارهم وآرائهم واستغفروا لذنوبهم ولم يصّروا على أخطائهم بجهالة.وقد يقول قائل: كيف لشخصية معروفة أن تحضر في محاضرة أو ندوة أو فعاليات بالمجتمع دون أن توّجه إليه دعوة للحضور؟! ولماذا لم يدع أصلاً ضمن المحاضرين لتلك المحاضرة أو تلك الندوة ناهيك عن دعوته للحضور والاستماع فقط؟! والجواب على ذلك التساؤل يعود إلى تلك الشخصية نفسها التي اعتادت أن تضع شروطها الخاصة للحضور والمشاركة الإيجابية في مجتمعها، فمن يضع شروطاً لنفسه بأنه لن يحضر إلا بدعوة شخصية أو ببطاقة تليق بمكانته السابقة إنما يرتكب خطأين بحق نفسه، الأول أنه ظهر بمظهر المتعالي والمتكبّر والمزهو بماضيه ومكانته السابقة مما يؤثر في علاقة الناس به، الثاني أنه حرم نفسه الخير الكثير والعلم الوفير بمجرد استماعه لصوت (الأنا) في داخله والتي غلّبت المظهر على المضمون، فإذا كان (البرستيج) يمنعه أو (المظهر الاجتماعي) يحول بينه وبين حضوره وتفاعله مع ما حوله، فإنه بذلك سيكون أول الخاسرين، أما إذا غلّب المضمون والجوهر على المظهر وشارك وتفاعل من دون (رسميّات) ولا (مظاهر) فإنه بذلك سيكون أول الفائزين، الذين كسبوا المزيد من العلم والمعرفة وكسبوا كذلك محبة الناس الذين رأوا فيه تواضعاً وحسن أخلاق.وأذكر أنني التقيت مؤخراً بوزير سابق وكان ذا خلق رفيع وشخصية متواضعة، بل وعرّفني بنفسه، متواضعاً ثم تشرفت بمقابلته في مقهى لنتحادث معاً، فإذا به يلمّح إلى إحساسه بالفراغ والرغبة في تحقيق مزيد من الإنجازات لنفسه ووطنه، خاصة أنه كان طبيباً وهو الأمر الذي جعله (يتطوّع) لمعالجة الناس وخاصة (شيبان وعجايز) أهل قطر في أحد المراكز الصحية دون أن يأخذ أجراً رغم أنه (وزير سابق) ولكنه كان يذكر هذا الشيء ووجهه تغطيه ملامح الفرح والسعادة بما كان يفعله ويقول: (تكفيني دعواتهم الطيبة وفرحي بشفائهم بفضل الله تعالى). كما أنه يعكف على تدوين تجاربه ومذكراته بطريقة قصصية ممتعة ليستفيد منها الآخرون. فكم يحتاج مجتمعنا إلى مثل هذا الوزير السابق الذي رفض أن يستسلم للواقع ولم يجعل تأثيره ونشاطه رهين وظيفته السابقة كما يفعل الكثيرون وإنما تواضع وسعى لأن يساهم ويحضر ويتفاعل مع كل ما يجري حوله حتى بعد أن ترك منصبه أو حتى بعد تقاعده، ولعلّ في حديث نبينا العظيم خير تحفيز لنا: (إذا قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فليغرسها)، فما دام فيك قلب ينبض وما دام فيك أنفاس تصعد وتهبط، فلابد لنا أن نتفاعل وأن نكون إيجابيين وأن نسعى للتغيير وللخير حتى آخر لحظاتنا، ناهيك عن سؤال الله لنا عن أعمارنا وعلمنا وأموالنا، فكم لدينا من أهل خبرة واختصاص ينبغي أن يدلوا بدلوهم وأن يشاركوا في المجالس واللقاءات في الأحياء السكنية – على أقل تقدير – من باب زكاة ذلك العلم الذي تعلّموه، وأيضاً من باب (بلّغوا عنّي ولو آية).ويبقى اللوم أيضاً على الكثير من الجهات الرسمية والشعبية والوسائل الإعلامية والثقافية التي أصبحت تنافق كثيراً وهي توجّه دعواتها لبعض النخب والرموز، إذ إنها تدعوهم لا لمكانتهم العلمية والحياتية وإنما لمكانتهم الوظيفية الحالية، بينما تتركهم إذا ذهبت مناصبهم أدراج الرياح، فينبغي على الجهات أن تسعى لتفعيل تلك النخب والرموز وأن تشجّعهم للمساهمة، فكم نستمع ونشاهد كثيراً من اللقاءات عبر قناة الجزيرة لضيوف بألقاب (عميد سابق) (وزير سابق) وهكذا للإدلاء بدلوهم وسماع رأيهم وشهادتهم في قضية ما، فلماذا لا تفعل قنواتنا الوطنية وجامعاتنا ومؤسساتنا الثقافية ذلك مع أولئك الذين لديهم خبرات علمية وعملية وحياتية سابقة، فهم أحياء وليسوا بأموات، ولكن يريدون فقط.. من يتذكّرهم ويوّظف طاقاتهم، فكم ستكون سعادة ذلك الوزير (السابق) لو أن جمعية خيرية مثلاً في قطر جعلته سفيرها الفخري وجعلته يرأس طواقمها الطبية لمعالجة الفقراء والمرضى بالمجان في أنحاء العالم الإسلامي، كل ما نحتاجه هو أن ننظر للإنسان على أنه (إنسان وقيمة) لا على أنه (وظيفة ومنصب) زائلان لا محالة. والله المستعان.