14 سبتمبر 2025
تسجيلgoogletag.display('div-gpt-ad-794208208682177705-3'); googletag.cmd.push(function() { googletag.display('div-gpt-ad-1462884583408-0'); }); قبل أيام قليلة نشرت صحيفة الدستور الأردنية مقابلة مطولة مع أستاذ العلوم السياسية الدكتور محمد المسفر قدم فيها تحليلا عميقا ونوعيا لمختلف القضايا الملحة التي تواجهها المنطقة بأسرها، وقد استرعى انتباهي في المقابلة تحليل الدكتور المسفر لظاهرة الدكتاتور في منطقتنا، فوفقا للمسفر فإن إسرائيل لعبت دورا في ذلك، لكن الدكتاتور في منطقتنا هو من صنع أيدينا. فالمثقفون والكتاب (أكثر من أي عامل آخر) هم من نفخوا في بعض الحكام روح الدكتاتورية، حسبما ورد في المقابلة. لا خلاف على هذا الكلام، لأنه يسلط الضوء على جانب في غاية الأهمية قائم على وجود فئة من الكتّاب والمثقفين لا همَّ لهم سوى تسويغ ما يقوم به القائد وإضفاء صفات على القائد أحيانا لا يمكن أن تتوفر إلا في الأنبياء.ما من شك أن إسرائيل كانت وما زالت عاملا معطلا للتنمية والديمقراطية في منطقتنا العربية، إلا أنه كان لغياب الثقافة الديمقراطية واستئثار العسكر بالحكم لعقود طويلة الأثر الأكبر في ترسيخ حكم المستبدين في الكثير من البلدان العربية. فالعسكر الذين رسخوا حكم وهيبة الدكتاتور وظفوا الصراع مع إسرائيل لتأجيل الاستحقاق الديمقراطي وتقديمه وكأنه ضرب من المؤامرات التي تحاك ضد هذه الأمة، ونذكر جميعا شعار "لا صوت يعلو على صوت المعركة"، الذي وظفه الكثير من الحكام لتبرير ضبط ديناميات المجتمع وقمع تناقضاته، وهكذا تم القبول بحكم الدكتاتور مقابل الوعد بإلحاق الهزيمة النهائية بإسرائيل، وكانت هذه المقايضة في غير مكانها.وفي السابق كتب البرفيسور الأمريكي مالكولم كير (الذي عمل رئيسا للجامعة الأمريكية في بيروت قبل اغتياله عام ١٩٨٤) ما يفيد أن العرب (وهنا يقصد دول المواجهة) كانوا سيخلقون فكرة إسرائيل لو لم تكن موجودة إسرائيل على أرض الواقع. ففكرة وجود عدو خارجي لتبرير الإخفاقات هي فكرة رائجة عند كل الطغاة وهي فكرة جسدها الروائي الإنجليزي جورج أورويل أيما تجسيد في رائعته الروائية "مزرعة الحيوانات". فحتى يضمن القائد الخنزير نابليون الحكم ووحدة الصف داخل المزرعة لم يعترف بأن سبب تدمير طاحونة الهواء كان متعلقا بضعف بنائها وإنما لأن الخنزير سنوبول (العدو الذي يقطن خارج المزرعة) تسلل ليلا وحيوانات المزرعة نيّام وقام بهدم الطاحونة، وتم توظيف هذه البروباجندا عن طريق الخنزير سكويلر الذي كان يقلب الأبيض أسود والأسود أبيض لتضليل الحيوانات بالمزرعة. وبهذا المعنى فإن لرفع شعار مقاومة إسرائيل وظيفة تساعد الحاكم على توطيد حكم الدكتاتور والإفلات من المساءلة.طبعا، عرف العالم العربي حركة يقظة عربية كتب عنها جورج أنطونيوس في كتابه الشهير "يقظة العرب" وفيه بيّن أن مثقفي المنطقة هم من أسهموا في خلق الوعي للتخلص من الاستعمار، غير أن اليقظة العربية الأولى لم تتجاوز المساهمة في تحقيق الاستقلال، إذ لم تنجح في نقل المنطقة إلى حكم ديمقراطي وخاصة مع سيطرة العسكر على مقاليد الحكم في بعض الدول المحورية في المنطقة. وتحالفت الأنظمة العسكرية مع حركات التحرر الوطني في العالم ووضعت عدوها الأول الإمبريالية وضخمت من خطر العدو الخارجي لشرعنة الاستئثار بالسلطة التفرد بها.وتوالى الدكتاتوريون على المنطقة كما ذكر الدكتور المسفر وساعدهم المثقفون وعلماء السلاطين والصحفيون على إبراز صورة البطل، كما حدث مع السادات في أعقاب حرب عام ١٩٧٣. وربما المثال الأبرز الذي وظف الصراع مع إسرائيل للاستئثار واحتكار السلطة هو الرئيس السوري حافظ الأسد ومن بعده ابنه بشار. فالأسد الأب حاول أن يخلق وهما مفاده أن سوريا هي قلب العروبة النابض وهي الحصن الأخير في الصراع مع إسرائيل مع أن واقع الحال يشير إلى أن سوريا الأسد لم تطلق طلقة واحدة على إسرائيل من جبهة الجولان السوري المحتل على مدار ٤١ سنة (أي منذ حرب أكتوبر ١٩٧٣)، وكان من السهل وصم أي حراك بقصد التغيير بأنه يخدم إسرائيل، وتجلت هذه الحقيقة بأبشع صورها في السنوات الأخيرة وتمثلت بقيام قوات الأسد بتقتيل الشعب السوري المتطلع للحرية بحجة أن هناك مؤامرة صهيو-أمريكية تستهدف نظام الأسد "المقاوم". ويحق للمرء أن يتساءل كيف يتعارض تطلع الشعب السوري للحرية والكرامة مع مقاومة الاحتلال الإسرائيلي؟ والسؤال الأهم، كيف نجح نظام الدكتاتور الأسد في تحرير الأراضي السورية المحتلة ولا نقول الأراضي الفلسطينية طيلة أربعة عقود ونيف من الحكم الدكتاتوري؟الشعوب العربية التي أفاقت من غفوتها وبدأت بانتفاضتها في السنوات الأخيرة بدأت تدرك أن إعادة السلطة إلى الشعب من شأنها أن توفر إطار الحكم الأمثل، وهكذا سقط مبارك وبن علي والقذافي. وكان من الممكن أن تفضي هذه الثورات إلى القضاء مرة وإلى الأبد على فكرة الحاكم الدكتاتور لولا انتكاسة الربيع العربي الناتجة عن الثورة المضادة التي شنتها دول تناصب الديمقراطية والإسلاميين العداء. إلا أنه لا ينبغي أن يفهم من كلامي بأن إسرائيل لا تمثل خطرا على العرب وقضيتهم المركزية. فعلاوة على إصرار إسرائيل على إبقاء احتلالها للأراضي الفلسطينية فقد ناصبت العداء لكل حراك شعبي يهدف إلى التخلص من حكم الدكتاتور، وهكذا تباكت إسرائيل على رحيل مبارك وهي أيضا لا تتمنى أن يزول نظام الأسد لصالح الشعب السوري. بالمحصلة تبقى إسرائيل العدو الأول لقضية الشعب العربي في تحرير المحتل من أرضه، لكننا، كما قال الدكتور المسفر، يتوجب علينا أن ننتبه إلى حقيقة أن الدكتاتور هو ما نصنعه نحن.