20 أكتوبر 2025
تسجيلكتبت في صحيفة (الشرق) منذ الأيام الأولى لارتكاب أفظع الجرائم في العصر الحديث مقالا بعنوان (لماذا احتمال تحويل ملف خاشقجي إلى محكمة الجنايات الدولية وارد؟) ذكرت فيه ببراهين القانون الدولي أنه لابد من أن يتولى القضاء الجنائي الدولي البحث عن الجناة ليس من نفذ القتل الهمجي وتقطيع الجثمان فحسب بل من أصدر الأمر في أعلى مستوى السلطة وهو ما لم يعد خافياً حتى على الرأي العام العربي والعالمي العادي. يتفق أغلب أساتذة القانون الدولي منذ الأيام الأولى من زلزال اغتيال الصحفي السعودي جمال خاشقجي على مبدأ معروف وهو أن هذا الملف كما قالت السيدة (فيديريكا موغيريني) المسؤولة عن العلاقات الخارجية في الاتحاد الأوروبي هو ملف قضية غير مسبوقة بالمرة في التاريخ الحديث، وذلك أثناء زيارتها لأنقرة الأسبوع الماضي، حيث أكد الاتحاد الأوروبي على لسانها أن كل «المسؤولين فعليا» عن جريمة قتل الصحفي السعودي جمال خاشقجي داخل قنصلية بلاده في إسطنبول الشهر الماضي يجب أن يحاسبوا، وقالت وزيرة خارجية الاتحاد الاوروبي فيديريكا موغيريني «هؤلاء المسؤولون فعليا عن هذه الجريمة الرهيبة يجب أن يحاسبوا، داعية إلى تحقيق شفاف بالكامل ويحظى بمصداقية»، وأضافت «بالنسبة لنا المحاسبة لا تعني الانتقام». والأسباب واضحة لا لبس فيها وهي أن مواطناً مدنياً ينتمي إلى جنسية سعودية دخل الى مقر قنصلية بلاده يرفرف عليها علم الدولة تقع في بلاد أجنبية لديها علاقات دبلوماسية عادية مع دولته الأم من أجل إجراء معاملة يومية عادية مثل سائر المواطنين المقيمين خارج بلدانهم ثم ثبت باعتراف سلطات البلاد صاحبة القنصلية أن ذلك المواطن تم قتله داخل القنصلية! ولا يهم خبراء القانون الجنائي الدولي تلك التخريجات المتعاقبة بصفة يومية لجريمة القتل والتي تؤكد لهم أن السلطات السعودية تتعثر وتتلعثم في كل بيان يصدر عنها إلا أن القانون الدولي لا يهتم بتفاصيل تلك البيانات بقدر ما يركز اهتمامه حسب بنود ميثاق محكمة الجنايات الدولية بلاهاي على نتائج البحوث الجنائية التي تجريها السلطات القضائية للدولة التي وقعت فيها الجريمة أي تركيا والدولة التي تنتمي إليها القنصلية أي المملكة السعودية ثم تتولى النيابة العامة لمحكمة الجنايات الدولية القيام ببحوثها الخاصة بها حسب ميثاقها والتي تعتمد طبعا على كل عناصر الإدانة (أو التبرئة) التي تستنتجها المحكمة. وعلى ضوء ذلك تنتصب هيئتها لتنظر في عريضة الدعوى المقدمة لها من النائب العام للمحكمة الجنائية الدولية وتقوم بجلب المتهمين أينما كانوا وأيا كانت مستويات مشاركتهم في الجريمة أي مثلما قال الرئيس التركي من أسفل السلم إلى أعلاه، حيث التزمت الدول الموقعة على ميثاق إنشاء المحكمة يوم 19 يوليو 1998 بروما (بما فيها السعودية وتركيا) وتعهدت بتسليم من لديها من المتهمين إلى المحكمة لتقع مواجهتهم بالتهم المنسوبة اليهم وسماع أقوالهم وأقوال لسان دفاعهم ثم إصدار حكمها في القضية. وحين نقول اليوم بعد شهر ونصف الشهر إن احتمال تولي محكمة الجنايات الدولية النظر في هذه القضية حتى بعد أمد قد يطول أو يقصر فلأن كل عناصر الملف ترجح التدويل، وأهمها أن الجريمة أرتكبت في مقر تحميه الحصانة الدبلوماسية لاتفاقية فيينا لعام 1961 في مخالفة خطيرة لمبدأ الحصانة (المنصوص عليها خاصة في البندين 27 و41 وما بعدهما) وأهمها أيضا أن الأبحاث الأولية السعودية لم تكشف عن أسماء وهويات الموقوفين لديها وهو الكشف الاستعجالي والسريع المطالبة به تلك السلطات القضائية من أجل مساعدة الجانب القضائي التركي على مواصلة البحث، ثم إن سر مكان الجثة لم يعرف بعد لأن التحريات المتعلقة بجثة الضحية تتوقف على وجودها وهو ما يعتبر في القانون الجنائي العادي والقانون الجنائي الدولي تعطيلا مضللا للقضاء أي إخفاء حقائق لا مناص من كشفها! ومعلوم أن اتجاه دول الاتحاد الأوروبي وعديد القوى السياسية في الكونغرس الأمريكي بجناحيها الجمهوري والديمقراطي يميل إلى تدويل القضية ضماناً لسلامة التحقيق وإبعاد الملف عن كل التجاذبات السياسية والتزامات العلاقات الخارجية بين الدول المعنية التي يمكن أن تحيد بالملف عن مجراه النزيه والموضوعي والمتجرد، لأن الغاية المعلنة من تأسيس محكمة الجنايات الدولية (وهي ليست محكمة العدل الدولية) هي ضمان تحقيق العدل وكشف الحقائق في القضايا الجنائية التي تختلف الدول المعنية بها في تحديد مكان أو زمان المحاكمة أو طبيعة الجريمة وتصنيفها (البند 19 من ميثاق محكمة الجنايات الدولية) وهو ما ينطبق تماما على قضية الحال حيث نلمس يوميا أن دم المغدور الشهيد جمال خاشقجي سوف يراق هدراً دون محاسبة قاتليه، لأن المصالح الأمريكية من منظور الرئيس ترامب بدأت تتغلب على المبادئ الدستورية والأخلاقية المعروفة بها الولايات المتحدة والتي نص عليها ميثاق تأسيس الولايات المتحدة الموقع في 17 سبتمبر 1787 المعروف بميثاق فيلادلفيا، هذا الميثاق الذي يكاد اليوم عبر موقف الرئيس ترامب المتناقض يضيع ويضيع معه حق الضحية خاشقجي في الإنصاف والقسطاس لولا تمسك المؤسسات الدستورية الأمريكية بالحق والعدل وهو ما حلله الصحفي الشهير توماس فريدمان في نيويورك تايمز يوم الخميس الماضي.