14 سبتمبر 2025
تسجيلفي سعينا لمعرفة كيف تشكل عقلنا الحديث خلال عصور الظلام التي عاشها المسلمون، وصلنا إلى أنه كانت هناك دائما قوى خارجية تكيد للإسلام وتدفع نحو ما تعتقد أنه نهاية التاريخ، وهذه النهاية لا تعني توقف الحياة وإنما انتصار منطقها وسيادة فكرها. هذا ما فسر به مفكرون غربيون يوتوبيا أفلاطون أو مدينته الفاضلة، وهذا ما نُقل عن كارل ماركس في اليوتوبيا الشيوعية، وهذا ما ختم به فرانسيس فوكوياما سلسلة نهايات التاريخ، وإن كان تراجع لاحقا وقال إن نهاية التاريخ عنده لم تعد سيادة الفكرة الليبرالية وإنما سيادة العلم والتكنولوجيا. إذن الفكرة قديمة وبدأت مع عصر الفلسفة أي حوالي القرن السادس قبل الميلاد، مع أن هناك آراء غير مسنودة تُرجع بداية الفلسفة إلى عصر النبي إدريس. هنا أقول إنه لو صح مفهوم نهاية التاريخ بأنه سيادة فكر ما فلن ينطبق ذلك على شيء أكثر من الإسلام وسيادته على الأرض لأكثر من ألف عام. وعلاقة ذلك بتشكيل عقلنا الحديث أن الذين وقفوا وراء فكرة نهاية التاريخ تلك أرادوا أن تكون لهم السيادة، سيادة الفكر وسيادة الزمان. لذلك ستجد أنهم كما حاربوا ما جاء به المسيح ووقفوا وراء تشويهه، كانوا هم أيضا وراء الدس على الإسلام والكيد له. وقد بدأ ذلك مبكرا في مسيرة الإسلام لكنه بلغ مداه المؤثر مع التمهيد للفتنة الكبرى التي كانت بدايتها الحقيقية ليس مع مقتل عثمان بن عفان، ولكن مع محاولات قتل الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، نفسه، ثم ما قيل عن قتل الخليفة الأول أبي بكر الصديق، الذي ذكرت مصادر أنه مات بالسم، ثم الخليفة الثاني عمر بن الخطاب، ثم الخليفة الثالث عثمان. حدث هذا بعدما كان التشويه الفكري والدس قد وصل إلى مرحلة أججت نفوس الكثيرين واستمالت عقول آخرين لإحداث أول صدع وشق حقيقي في الصف الإسلامي بظهور ما سمي بالخوارج الذين كفَّروا الخليفة الرابع علي بن أبي طالب بناء على معتقدات باطلة وفكر ضال ابتدعوه، أو بالأدق ابتدعه من كان يقف وراء الفتنة. في كتابه «نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام» يرجع علي سامي النشار نشأة الخوارج إلى «طائفة القراء» في عصر النبوة. كما تحدث بعض المستشرقين عن ظهور الخوارج من بين تلك الطائفة، وقت التمرد على عثمان. ومن ثم ظهرت ما تسمى بشيعة علي لدى رجوعه من معركة صفّين. وتذكر لنا المصادر ومنها «تاريخ الرسل والملوك» للطبري أن السبب المحوري وراء ظهور تلك الحركات وإثارتها للفتنة كان الأطماع المادية، خوفا على أعطياتهم، والسلطوية، بالزعم بأن عثمان كان يحابي أقاربه. وقد استفحلت فتنة الخوارج حتى وصلت إلى قتل علي رضي الله عنه ولم تكد تمضي 40 عاما على الهجرة. تلك المصادر وإن حددت الأطماع كأسباب للفتنة إلا أنها لم تذكر هوية من كان يقف وراء تحريك تلك الأطماع واستغلالها لشق صف المسلمين. لكن مصادر أخرى منها الطبري وابن الأثير وابن كثير ذكرت أن عبدالله ابن سبأ، المشهور بابن السوداء، وتاريخه معروف، كان هو المحرك الأساسي وراء الفتنة، وأنه أحدث ومَنْ معه ضلالات وبدعا منها أن الناس تعود للدنيا بعد الموت. ويقطع شيخ الإسلام ابن تيمية بأن ابن سبأ هو أول من بالغ في تقديس علي بدعوى إمامته وصولا إلى تأليهه، وأنه أول من بدأ بتوجيه السب والشتم للصحابة الكرام. كما نُسب إلى ابن سبأ وغيره من أحبار يهود دس كثير من الإسرائيليات على الأحاديث النبوية وأخبار الأولين. وعلاقة هذا ببحثنا هو أن له سابقة في التاريخ إذ إن الثابت كما أورد باحثون منهم د. حربي عباس عطيتو ود. سامي الإمام أن الفيلسوف فيلون السكندري (أواخر القرن الأول قبل الميلاد) الذي يعد أول فيلسوف يهودي، كان مقلدا للفلسفة اليونانية وخلط عن عمد بين التوراة والفلسفة، وقارب بين أقوال الفلاسفة وأنبياء بني إسرائيل. كما يرصد الباحث عباس العلي كيف ابتدع أحبار اليهود الفكر الفلسفي بما غيروا وحرفوا في معتقداتهم ليفرقوا بين الماهية والوجود، ما خلق صراعا فكريا وهميا، ما زال العالم يعاني تبعاته. فهو كما يقول «صراع ساحته الزمن التأريخي من وجود آدم على الأرض وسيطرة الهاجس الزمني عليه كلما مضى جزء منه ليتجه إلى اللاشيئية الحتمية. فالحتمية التأريخية تقود التأريخ وتكتب سيرورة الحدث، لأن نهاية هذه السيرورة نهاية التأريخ وهي نهاية الوجود الماهوي والحسي معا. نهاية التأريخ هي إعلان وفاة العقل ليحل محله اللا شيئية التي تنهي الوجود الحسي كله». من هنا يتضح، وكما أشرت سابقا، فساد الفكر الفلسفي من بدايته إذ اعتمد برمته على ذاك الصراع الفكري الوهمي، الذي لا حاجة حقيقية له في حياة الأمم والشعوب. وأعلن مفكرون كثر، منهم مارتن هيدجر، نهاية صلاحيته، مع التقدم العلمي والمعرفي وانعدام الحاجة للتفلسف. هنا نعود لفتنة ابن سبأ لأنها كانت بداية ما سيعرف لاحقا بعصر الفلسفة الإسلامية الذي تبلور على يد يعقوب الكندي الذي تأثر بفكر واصل بن عطاء المعتزلي وغيره مِمن سُموا بالمتكلمين. لكن إذا كانت هذه بدايات التشويه الذي أثر في تشكيل عقلنا الحديث، فمتى كانت البداية الفعلية للانهيار الذي نراه الآن؟ والإجابة عندي أنها كانت مع اكتمال الدين ووفاة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، فليس بعد الكمال إلا النقص. وللحديث صلة.