26 أكتوبر 2025
تسجيلأول ما يستقبلك في العاصمة كوالالمبور بترحيب واحتفاء بالضيوف هو مطارها فتدرك أنت القادم إليها بأن بشاشة رجال و نساء شرطة الحدود و الجمارك هي إشارة الفرح بك بابتسامة لطيفة مرسومة تلقائيا على الوجوه تجعلك ترتاح للبلاد من خلال أول واجهة تستقبلك و تذكرت الوجوه العابسة منذ سنوات في مطارات أوروبية و أمريكية توحي إليك و أنت البريء المسالم بأنك متهم بشيء ما أو على أقل تقدير أنك غير مرغوب فيك و قس عليها أغلب المطارات العربية التي أصيبت بعدوى الأمراض الغربية فرسمت على وجوه الموظفين تكشيرة الحذر و الخوف خاصة وأنا أحمل عقدة قديمة من خشية المطارات والحدود بحكم أني كنت ملاحقا من إنتربول بإرادة دولة الاستبداد على مدى سنوات عجاف فكلما نزلت في مطار حتى بعد زوال اسمي من الشبكة الإنتربولية تملكني خوف مزمن من خطأ ما أو سوء عمل الكمبيوتر فيأخذونني بغير زلة أو على الأقل يعطلوني لساعات. هذا الإحساس لا تعرفه و أنت تجتاز الحواجز الماليزية بانسيابية عجيبة ألغت النواميس البيروقراطية كما هو الشأن في كل المعاملات الماليزية من مصارف و فنادق و معالم سياحية. أول انطباع أسجله و أنا المغرم بالسياسة هو العزم على مقاومة الفساد دون خلفيات سياسية أو افتراء فالقضاء هنا مستقل و سمح لرئيس الوزراء الأسبق أنور إبراهيم بأن يتقدم بطلب مراجعة الحكم الصادر ضده منذ عشرين عاما بل و بدخول الفضاء الانتخابي و هذا الخبر عزز اعتقادي بأن هذه الدولة المسلمة تراجع أخطاءها و تصحح مسارها بثقة في شعبها و بإصرار على صيانة القيم الأخلاقية الإسلامية كما قال وزير الدفاع. الانطباع الثاني الذي تأثرت به و أثراني سياسيا و حضاريا هو حديثي مع أحد المقربين من رئيس الحكومة الجديد القديم مهاتير محمد الذي سألته عن سر النجاح الباهر لماليزيا على كل الأصعدة فقال لي إننا أدركنا أن الدولة التنموية هي البديل عن الدولة الإدارية ونحن نسير على هدى من الله تعالى و توجيهات من مهندس المعجزة الماليزية مهاتير محمد الذي يؤمن بأن كل أمة لها جيناتها الحضارية الناتجة عن هويتها الأصيلة و لا تتقدم أمة من الأمم إلا بهويتها الأصيلة لا الهوية الدخيلة وهو مفهومنا للحداثة كما أن مهاتير محمد يؤمن بالفرق الكبير بين مستوى المعيشة و مستوى الحياة لأن الإنسان لا يعيش بالخبز فقط بل يحتاج إلى قيم و مثل عليا فحرصنا في ماليزيا على شحن البرامج التعليمية بالقيم و الآداب و الفنون و علوم التاريخ و حوار الحضارات حتى ينشأ جيل جديد مشبع بالكبرياء الوطنية و قال لي هذا المسؤول بأن سر القفزة الاقتصادية و الاجتماعية يكمن في عدم الانخراط في المنظومة الأطلسية وأذرعها المالية من صندوق النقد و البنك العالمي وفي عدم تنفيذ تعليماتهم القاضية بإلغاء القطاع العام و التوحش في الخصخصة و طرد الموظفين و رفع الدعم عن المواد الأساسية بل في التنمية و التعاون الاجتماعي و اتباع مسالك العدل الجبائي أي انتهاج نمط وطني متحرر من الوصاية و الإملاءات و لم أملك أنا أن أفكر في فقدان بعض الشعوب العربية لهذا الكبرياء و عزة النفس حينما أرى الطوابير العربية الواقفة أمام شركات المناولة للتأشيرات الفرنسية للحصول على تأشيرة لفرنسا أو أوروبا بدفع مبلغ مالي يوازي نصف الأجر الشهري الأدنى و بلا إرجاع المبلغ في حالة رفض التأشيرة كما وقع لشقيقي الشيخ محمد الصادق الذي درس وهو شاب في باريس و عمل فيها سنوات و له فيها أهل و أقارب حين اشتاق لاستعادة ذكرياته الباريسية تقدم بطلب تأشيرة و كان متأكدا من الحصول عليها لأنه شيخ كبير و لديه كفافه من مال و بنين و له تاريخ مع فرنسا مثل أغلب التوانسة والمغاربيين لكن الطلب رفض و أعادوا له جوازه دون ذكر سبب للرفض و طبعا بعد انتزاع المبلغ المالي منه و تعرفون أن المواطن الفرنسي و الأوروبي يدخل إلى بلادنا ببطاقة تعريف بسيطة حيث يشاء و كيف يشاء ! لا أحدثك عن الشوارع النظيفة و الأرصفة الشفافة و أخلاق الناس في المحلات العمومية و انضباطهم الأسطوري و سهولة التنقل و قضاء مشاويرك بيسر حتى تشعر و أنت تتجول في كوالالمبور و ضواحيها و تمر بمالاكا و باغون على الطريق السريعة نحو الجنوب تشعر بأن الطرقات السريعة الأوروبية أقل نظافة من هذه الدولة المسلمة ثم إن مكافحة الفساد هنا ليس قولا و لا تصفية حسابات شخصية بل إستراتيجية ممنهجة و موضوعية و عادلة لاجتثاث ما يعطل التنمية و يحبط التكاتف السياسي. أيام منعشة تعزز اعتقادي بأن الإسلام كحضارة لا يتناقض مع التقدم و لا مع التألق.