16 سبتمبر 2025
تسجيلتحفل أدبيات السياسة التونسية هذه الأيام بالجدل حول الزعيم بورقيبة، ونشهد عمليات مصادرة تراثه من قبل تيارات حزبية تريد استعماله أصلا تجاريا وأخرى تريد نكران كل ما قام به من كان يسمي نفسه "المجاهد الأكبر". وسبق أن كتبت عن الزعيم، فقلت إن الرجل كان إنسانا ولم يكن ملاكا أو شيطانا، وأمره موكول للمؤرخين لا للسياسيين. ويسألني عادة بعض الشباب مشكورا: كيف أوفق بين اهتمامي الأكاديمي بشؤون الهوية والأصالة وبين انتمائي منذ عقود إلى حزب الزعيم بورقيبة ونشاطي فيه لسنوات طويلة؟ وأنا أتفهم تساؤلهم وأرى أن من واجبي الإدلاء بشهادة عن عصر لم يعيشوه، عسى أن أنير لهم قبسا من نور الحقيقة حول جيلي والتحولات الكبرى التي عاشتها بلادنا والعالم العربي والأمة الإسلامية قبل أن يولد أغلب هذا الشباب. أنا ولدت في القيروان في البيت نفسه الذي بناه جدودي القادمين من قبيلة قديد والتي لا تزال إلى اليوم بين مكة والمدينة في الحجاز، وجاء جدي الأول (والله أعلم) مع الفاتح موسى بن نصير في سنة 711م حسب ما بلغنا من الجدود، وكان جدي الذي تلاه اسمه "أحمد القديدي" وكان وزيرا عند إبراهيم بن الأغلب الثاني الذي لقب بـ"السفاح"، وثار عليه جدي هذا وقتله الحاكم الجائر شر قتلة كما ورد ذلك في صفحة 108 وما بعدها في الجزء الأول من كتاب "إتحاف أهل الزمان" للعلامة المؤرخ المصلح أحمد بن أبي الضياف (الطبعة الأولى). ثم جاء جدي الثالث وهو القائد العسكري "سالم القديدي" ومقامه يزار إلى اليوم في القيروان وفي المهدية وهو الذي توفاه الله شهيدا حين جهز جيشا قيروانيا للتصدي لملك فرنسا لويس التاسع في ميناء المهدية، فأضرم النار في مراكب الصليبيين لأن هذا الملك الملقب بـ"القديس لويس" كان قائد جيش الحملة الصليبية السابعة وكان سيمر إلى بيت المقدس من تونس، واستشهد هذا الجد في معركة عام 1270م مع مجموعة شهداء هبوا لصد الصليبيين لأن الإسلام كان جنسيتهم والجهاد كان واجبهم. وعندما ولدت ونشأت في ظلال هذا التاريخ وظلال جامع عقبة بن نافع كانت الصورتان اللتان فتحت عليهما عيني في غرفة المجلس في بيتنا نهاية الأربعينيات هما صورة الملك المجاهد الشهيد المنصف باشا باي وصورة الزعيم بورقيبة باللحية الكثة في منفاه بالمشرق العربي. لأن والدي رحمه الله كان كجل أبناء جيله وطنيا بالفطرة يحلم بالاستقلال ويساند الزعيم المجاهد من أجل ذلك الاستقلال. وتربى جيلي على تلك القيم في مدرسة الفتح القرآنية ثم في الفصول الأولى من التعليم الزيتوني، ، أي في الواقع عشنا نحلم بالاستقلال كاستعادة الهوية إلى جانب اكتساب الحداثة. ثم إن أحد أقاربي كان من المقاومين واسمه "رحمة الله عثمان سعيد"، الذي أصبح بعد الاستقلال ضابطا في الحرس الوطني، كان كثيرا ما يختبأ في بيتنا على السطوح في بداية الخمسينيات وكنت أتلمس بندقيته الرشاشة بإعجاب طفولي وكانت والدتي تخفيها خوفا من عصابة اليد الحمراء الإرهابية التي كانت تغتال الوطنيين. هذا هو نموذج المقاوم الدستوري الذي عرفته، إلى جانب المعلمين الذين كانوا يدرسون لنا في المدرسة القرآنية (الفتح) -وهي مدرسة وقفية- وكانوا من مؤسسي الحزب الدستوري بقصر هلال عام 1934 ومنهم رحمهم الله محمد بودخان والطاهر عطاء الله والشاذلي عطاء الله، وهم ممن عرفناهم مسلمون ملتزمون معتدلون ودستوريون وطنيون صادقون. هذا هو المناخ الذي نشأنا فيه فلا فرق بين الدين واللغة العربية والعروبة والهوية والاستقلال. وبورقيبة نفسه كان بالنسبة لجيلي مثالا للزعامة وقاد معركة مقاومة التجنيس سنة 1933، وحين كنا نزور جزيرة جالطة بعد الاستقلال والتي نفي فيها الزعيم كنا نقول: كيف ظل هذا الرجل صامدا على هذه الصخرة في البحر لا يلين ولا يخضع؟ ونرى في ذلك الصبر موقف الزعيم المسلم الوطني. وكذلك كنا نقرأ في صحافة الاستعمار بأنه متهم بالإرهاب الإسلامي، ففي عدد من مجلة "باري ماتش" الباريسية صادر في يناير 1952 كتب مدير المجلة "رايمون كارتييه" حرفيا يقول: "انظروا إلى عينيه الزرقاوين، إنهما يخفيان إرهابيا إسلاميا". هذا هو بورقيبة الذي عرفناه. ثم حين تحقق الاستقلال كنا نرى في بورقيبة زعيما مسلما مثيرا للجدل إلا أنه حقق كثيرا من مقاصد الشريعة، ومنها أنه سوى بين المواطنين بإلغاء القبلية والإقطاع ثم أعطى الأولوية المطلقة للتربية والتعليم، فنشأ في بلادنا رجال ونساء متعلمون وواعون وقادرون على تحمل المسؤوليات. لكن عمليات التغريب والقضاء على الهوية بدأت في عهده مع المظالم المسلطة على العائلة الملكية الحسينية وأنصار المرحوم صالح بن يوسف ثم اتخاذ أحمد بن صالح ورفاقه أكباش فداء وما تلاها من قضايا كيدية ضد مجموعة محمد مزالي، وأعتقد أن بلادنا لم تكسب شيئا ذا بال حينما تخلت عن ثوابت الأصالة من أخلاق ولغة وقيم وتوازن أسري. ولعلنا نهتدي إلى أقوم المسالك بإنجاز الإصلاحات الكبرى في التعليم والإدارة والسياسة دون أن نتخذ تاريخ الزعيم مرجعية بسيئاتها وحسناتها، فالبورقيبية رحلت مع بورقيبة كما انتهت الكمالية بموت أتاتورك، والمصير لتونس التعددية الحرة القوية. ومن المؤسف أن تثير إحدى النساء "الحداثيات" .